وأنشأ في بنت جبيل مدرسة اجتمع إليها جل طلاب العلم الذين كانوا في جبل عامل وكان يجمعهم كل ليلة جمعة ويسال كل واحد منهم عن دروسه ومن لم يحضر يرسل وراءه وكان يتعاهد أمور الطلبة والمدرسين وينحي باللائمة على المقصر وينوه بالمجتهد وبالغ في احترام السادة والاشراف وأهل العلم واكرامهم وتعظيم العلماء وحث الناس على ذلك واستعمل الوعظ في المجالس العامة وتلاوة خطب نهج البلاغة وبرع في ذلك وسن مجالس الفاتحة في وفيات العلماء والعظماء ونظم القصائد في رثاء العلماء وحث الأدباء على ذلك ونشطهم فاتبعوه وتليت تلك القصائد في مجالس الفاتحة والمجالس العامة وراج سوق الأدب وحث الناس على اطعام الطعام في الثلاثة الأيام بعد الوفيات وكان شديد الوطأة على المتقعرين والمتكبرين. وفي عهده زار الأمير عبد القادر الجزائري قرية ديشوب التي يقطنها المغربة وهي مجاورة لجبل عامل فدعاه الحاج محمد البزي أحد وجهاء جبل عامل إلى ضيافته في بنت جبيل فامتنع أولا فقال له ان جدك كان يكرم ذا شيبة شابت في الاسلام وعليك ان تقتدي بطريقته فقال له قد أجبتك فلما حضر إلى بنت جبيل وزاره المترجم ورأى فضله ومعرفته وحسن محاضرته احترمه كثيرا وجعل لا يفارقه وكان كلما اجتمع بأحد من أهل السنة من حاكم أو عالم أو غيرهما يكون حديثه في الغالب مقصورا على التأليف بين الطائفتين وسعى في بناء المسجد الكبير في بنت جبيل على ما هو عليه اليوم من أموال المرحومين الحاج محمد وأخيه الحاج سليمان البزي وكان بانيه المعمار الشهير الحاج حميدي الصفدي ومعاونه صالح الصفدي وادخل تحسينا كثيرا على طريقة التدريس بالالتزام بتفسير العبارة والاقتصار على ذلك الا قليلا مما يتعلق بها وكانت عادة كثير من المدرسين الاكثار من ذكر المطالب الخارجة عن العبارة وإطالة المدة في تدريس العلوم العربية وربما كان أول من درس القوانين بعد المعالم في جبل عامل وكانت العادة فيها تدريس شرح العميدي على تهذيب العلامة بعد المعالم كما كانت العادة كذلك في العراق قبل ظهور القوانين وادخل تحسينا كثيرا على إقامة العزاء بترتيب المجالس الأسبوعية والوعظ فيها بقراءة بعض خطب نهج البلاغة وما يقتضيه الحال بشكل مؤثر في النفوس وقراءة الأحاديث على النحو الذي يتلى في مجالس العزاء في العراق وكانت العادة القراءة في عشر المحرم خاصة من الكتب المسماة بالمجالس من ترتيب بعض البحارنة المشتملة على الغث الا ما ندر وهي عشر مجالس مطولة في مجلد ضخم لكل ليلة من ليالي عشر المحرم مجلس يبتدئ بذكر خطبة من انشاء مؤلف الكتاب أولها: أيها المؤمنون المجتمعون وقصيدة من شعر الخليعي غالبا وحديث طويل ملفق مما دب ودرج ولا تكون القراءة غالبا الا في عشر المحرم وربما تكون في غيره لكن لا على وجه منظم بل كيفما اتفق وصادف فإذا كان يوم العاشر قرئ مقتل أبي مخنف أو غيره ولكنه كان لا يخلو من زيادات الناسخين والمرتبين. وبعد حضوره لجبل عامل صار يقرأ يوم العاشر مقتل ابن طاووس واتبعه أكثر الناس في ذلك ولما الفنا لواعج الاشجان واشتهر وطبع مرارا صار الناس يقرؤون فيه واحضر معه من العراق مجموعة جمعها له بعض قراء التعزية مما يتعار ف قراءته هناك ونسخ الناس منها نسخا كثيرة وتداولوها وكان ينسخها الشيخ حسين شمس الدين بأجرة لكنه كان فيها الصحيح والسقيم ولم يكن هو ولا غيره يعلم بسقيمها ولا يلتفت أحد لذلك لقلة الاطلاع على التاريخ وقلة الاعتناء به عموما وبذلك خصوصا حتى أنه كان يعجب ببعض ما يذكر في مقتل أمير المؤمنين من الكلام المشتمل على هذه العبارات: ان البرد لا يزلزل الجبل الأشم ولفحة الهجير لا تجفف البحر الخضم والليث يضرى إذا خدش والصل يقوى إذا ارتعش وأمثال ذلك مع أنه من تنميق بعض القراء لا أصل له ولما ألفنا المجالس السنية جهدنا ان نجد لذلك ذكرا ولو في بعض الكتب الغير المعتبرة فلم نجد وأمثال ذلك كثير يطول الكلام باستقصائه وكانت هذه الأحاديث تقرأ في العراق على مسامع العلماء وبمحضر منهم فلا ينكرها أحد الا النادر ولما الفنا المجالس السنية هذبناها والحمد لله من جميع ذلك وميزنا القشر من اللباب والخطأ من الصواب وقد طبعت مرارا وانتشرت. وادخل تحسينا كثيرا على الشعر والأدب بتغيير أسلوبه عما كان عليه فقد كان أكثر الشعراء العامليين يقتصرون في الغزل على أسلوب خاص وفي المديح على ألفاظ مخصوصة كالمكارم والمعالي والماجد والبحر والحبر وأمثال ذلك وكذلك في الرثاء فنبه الأفكار إلى التفنن في أساليب الشعر والتجنب عما ينتقد منه وعقد لذلك المجالس وانتقد فيها الاشعار وفتح باب الانتقاد لغيره وسن للأدباء طريقة جديدة مما دعا الشعراء إلى تغيير أساليبه وتحسينه وتهذيبه وظهر في الأدب العاملي فرق واضح. وكان له على هذا الفقير مؤلف الكتاب فضل كبير باظهاره العناية بي والتنويه باسمي في صغر السن وكان والدي رحمه الله لما زار العتبات الشريفة طلب إليه بنو عمي ان يرسلني إلى العراق فلما حضر إلى جبل عامل وزاره المترجم نهاه عن ذلك وأشار عليه ببقائي في جبل عامل وقال له ان الذين في النجف لا يفضلونه في التحصيل ولا يصلون إليه وكانت إشارته هي الصواب وقرأت في مدرسته حاشية ملا عبد الله وشرح الشمسية للقطب في المنطق والمطول في علم البلاغة والمعالم وشيئا من الشرائع قراءة تحقيق واتقان وكتبت في حال القراءة حواشي على المطول والمعالم وغيرهما وأذكر اني رأيته في قرية عيتا وكنت في مدرستها وسني في نحو الثالثة عشرة فسال عني وسألني فيما اقرأ فأخبرته فالقى علي بعض الأسئلة في النحو فأجبته واسدى إلي بعض النصائح فعملت بها ثم دعاني إلى العشاء معه ثم القى علي أسئلة أخرى فأجبته وسررت بذلك ولما تحولت إلى مدرسته في بنت جبيل كان يطلب مني القاء الأسئلة على بعض الطلبة الذين كان يجمعهم كل ليلة جمعة وطلب مني القراءة في نهج البلاغة في المجالس العامة وتمرنت في أيامه على نظم الشعر وكان يثني على قصائدي إذا تليت في المجالس العامة وينشطني كثيرا جزاه الله عني خيرا. وفي تكملة أمل الآمل : انه ترقى في الاشتغال في العراق وتقدم على جميع طبقته حتى صار يشار إليه بالأكف وصارت له محبة في قلوب عموم أهل العراق حتى بغداد والحلة وشاع ذكره بالفضل والجامعية وترتب على وجوده بعض المطالب الخيرية وكان إذا جلس في مجلس أو ركب في سفينة لزيارة الحسين ع لا يخرج من ذلك المجلس أو من تلك السفينة الا وهو مالك لقلوب الكل حتى اتفق انه تكلم في فضل تعلم العلم في بعض أسفاره إلى كربلاء وهو في الطرادة السفينة الصغيرة فلما رجعنا إلى النجف ترك جماعة الكسب والتجارة وصاروا يطلبون العلم ويراجعونه المشورة فيمن يقرؤون عنده وصار بعض هؤلاء علماء كالشيخ قاسم قسام والشيخ علي الخياط وغيرهما وبالجملة كانت فيه جاذبية ربانية لربانيته وصفائه وبينما هو كذلك إذ عرض له سعال وبحة في صوته فأوجب عليه الأطباء إما المعالجة أو تغيير الهواء بالذهاب إلى وطنه جبل عامل فجاء إلى بلاده ولما اطلع أهل البلاد على فضله وعلمه وكماله في قوتيه العلمية والعملية اكبوا عليه وعرفوا قدره فتصدى لاحياء السنن الشرعية وترتب على وجوده ترويج الدين وأعلاه كلمة المؤمنين واعزاز الشرع المبين وصارت البلاد تزهو بنور علمه وتتضوع
(١٧٣)