الرجل الذي ودعه العالم الاسلامي كنز ثمين من العلم الصحيح والوطنية المثالية.
شيعت دمشق أمس، وشاركتها في التشييع البلاد العربية والاسلامية جثمان المغفور له آية الله السيد محسن الأمين المجتهد الأكبر، وقد عرفت العاصمة السورية فقيد العالم الاسلامي كما عرفه المسلمون في جميع أقطار الأرض، الحجة الدامغة في الفقه والعلامة الكبير، والمصلح الاجتماعي الذي قضى عمره في العلم والأدب، لم يلجا إلى راحة أو هدنة بل كان وقته كله مقتطعا للتأليف ونشر العلم وتنمية مدارك الأجيال التي عاصرها، وتوجيه النصح والارشاد لقادة المجتمع، وتقوية الروح الوطنية في كل مكان زاره أو حل به، أو اتصل بزعمائه وموجهيه. وكان إلى جانب ذلك الرجل الزاهد الذي لم يعش لنفسه قط، بل عاش للمسلمين جميعا، وعمل على توحيد كلمتهم ورفع شأنهم، وتعزيز مكانتهم، وايصال الدين الحنيف إلى قلوبهم، كما كان الحجة المقنعة في النقاش، بل ولقد كان المنتصر في أية مناقشة تجري حول شؤون الفقه وأصول الدين.
وكان الراحل العظيم يعتمد على موارد مؤلفاته وهو الذي يستطيع ان يكون أغنى الأغنياء تحيطه قلوب الملايين وتنفذ رغباته لو أراد ولكنه فضل ان يعيش لغيره وكان يجد لذة عندما تخرج له المطابع كتابا جديدا يفيد الناس ويوضح لهم الغامض من أمورهم ويرشدهم إلى الطريق الصحيح ولقد اوصى قبل موته بان تدفن معه دواته النحاسية وأقلام القصب التي كان يكتب بها كأنما كان يخشى ان لا ترافقه المحبرة والأقلام التي لازمته طيلة حياته في مماته أيضا.
وكان البند الثاني في وصيته ان يجمع ثمن الكتب التي تباع من مؤلفاته المطبوعة وعددها 65 كتابا معظمها من الحجم الكبير اوصى ان يجمع لتطبع به مؤلفاته غير المطبوعة وهكذا عاش الرجل للعلم ومات وهو يفكر في نشر العلم وزيادة الثقافة الدينية في العالمين الاسلامي والعربي.
لقد كان موكب تشييع جثمانه الطاهر أمس الدليل الساطع على المكانة العليا التي كان سماحته يحتلها في قلوب العرب والمسلمين، المكانة التي نالها بعلمه وفضله ووطنيته وجهاده: فإذا ساهمت البلاد العربية والاسلامية في تشييعه ورثائه وعم الحزن والاسى جميع الأوساط عليه فان هذه البلاد تفيه بعض حقه، وتقدم إليه جزءا يسير مما يستحق.
كان الفقيد العظيم إلى جانب احتلاله المكانة الأولى في الصفوف الأولى لرجال التوجيه والارشاد والعلم الصحيح مناضلا وطنيا رفع صوته ضد الاستعمار والمستعمرين وقاومهم ببسالة وشجاعة وظل على موقفه حتى خروج آخر أجنبي عن سورية ولبنان وحتى غدا استقلال البلدين لا ريب فيه ولا اثر لغير أبنائه في السهر عليه ورعايته.
ان الفقيد الكبير كنز ثمين من العلم والوطنية الصادقة التي لا زيف فيها، وينبوع صاف من المعرفة الموجهة التي تحسن إلى الناس وتعلمهم سبل الحق والخير والرشاد، ولقد انحنى الألوف أمس بخشوع وجلال امام الضريح الذي ضم الرجل الخالد يرطبونه بالدموع ويبتهلون إلى العلي القدير ان يسكنه فسيح جنانه وان يعوض المسلمين خيرا عن فقيدهم الذي لا يعوض. بينما كانت ملايين المسلمين في شتى أقطار الأرض تبتهل إلى الله ان يتغمده بالرضوان في دار الخلود الدائم.
ونعته جريدة الأيام قائلة:
فاجعة العالم الاسلامي بالمجتهد الأكبر، كان ملاذا يلوذ إليه المجاهدون.
فجع العالم الاسلامي بفقد رجل من أعظم رجال العلم، ومن أكابر المشرعين المجتهدين هو المغفور له السيد محسن الأمين فقد وافته المنية في بيروت عن عمر ناهز التسعين.
وكان المجتهد الأكبر السيد الأمين من العلماء الأعلام بقية السلف الصالح تلقى علومه الابتدائية في جبل عامل ثم سافر إلى بغداد فالنجف الأشرف وانكب على العلم والمعرفة، فنال درجة المجتهد الأكبر، لكثرة ما درس من علوم الدنيا والدين، واشتهر بعد ذلك ولمع نجمه في الخافقين، وعاد إلى دمشق فبقي فيها فترة طويلة يعلم ويفتي المسلمين في أمور دينهم وتخرج على يده أساطين العلماء الأعلام في الشرق العربي، ثم انتقل بعد ذلك إلى جبل عامل حيث انكب على التأليف ونشر حوالي ستين مؤلفا من أحسن المؤلفات، وكانت له غفر الله له، ميزة من أعظم المزايا الا وهي عدم التعصب الذميم، وفضح الخرافات التي كانت شائعة في عهد العثمانيين وتعريف الدين الاسلامي على حقيقته دون زيف أو دجل أو اختلاف وهو إلى جانب هذا كله. وطني من أعاظم الوطنيين وله مواقف مشهودة ضد الفرنسيين في سورية، عندما كان يجار بالحق امامهم ويندد بأعمالهم ويدافع عن استقلال سورية وحريتها دفاع الأبطال وكم من مرة احرج الفرنسيين فلم يستطيعوا ان ينالوه بسوء لعظم مقامه وكبير شانه، وله الفضل الكبير في تأجيج الثورة ضد الاستعمار، وكان ملاذا يلوذ إليه المجاهدون الأبرار وعمادا يعتمد عليه في جميع الملمات، وكانت الطائفة الجعفرية المسلمة موضع عنايته وتوجيهه ورعايته، مما اكسبها الحب والعطف، والمزيد من المعرفة.
وقد طيرت البرقيات من جميع انحاء العالم الاسلامي معزية بالفقيد الأكبر ووصلت الوفود إلى دمشق من مختلف الأقطار للاشتراك بتشييع جثمانه، ورافقت جثمانه الطاهر من لبنان وفود غفيرة وجماهير عديدة للتشرف بالاشتراك في تشييع جثمانه وقد اشتركت الحكومة السورية رسميا بالتشييع وأوفد دولة الرئيس امين الرئاسة لتمثيله وتوافده من سائر الأنحاء إلى دمشق يوم الثلاثاء جماهير غفيرة حيث شيع الفقيد باحتفال مهيب مشى فيه كبار الشخصيات السياسية والعلمية والهيئات الاقتصادية والتجارية وصلي على الجثمان في جامع بني أمية ودفن في مقبرة السيدة زينب رضوان الله عليها ووري التراب بين الأسى والحسرات والدموع. لقد افل نجم العلم والعرفان بوفاة المجتهد الأكبر. رضي الله عنه وارضاه وأسكنه جنات عدن تجري من تحتها الأنهار أعدت للمتقين.
وقالت جريدة العصر الجديد:
كان رسول الوطنية والتقريب، ثلاثة أجيال من العلم تدفن في التراب.
اليوم تسير دمشق وتسير وراءها بيروت ويسير وراءها جبل عامل