وتسير وراءها سوريا ولبنان والعراق وإيران والباكستان والهند بل يسير العالم العربي والعالم الاسلامي ممثلا في علمائه وفي رجاله الرسميين الحكومات والسفراء والبعثات وكبار رجال المال والأعمال والتجار والصناع والزراع ومختلف الطوائف والمهن وتسير الجماهير والمواكب خلف نعش فقيد العروبة والاسلام الغالي، رجل الدين والعلم والأخلاق والفضيلة والتقوى، والصلاح والورع والزهد، المجتهد الأكبر العلامة السيد محسن الأمين، لتودعه الوداع الأخير، ولتقوم نحوه بأقل الواجبات المفروضة نحو كبار رجال الدين، وكبار رجال العلم الأتقياء الصلحاء الشرفاء.
لم يكن السيد محسن الأمين فقيها في الشريعة الاسلامية فقط، ولا مجتهدا في المذهب الجعفري فحسب الذي هو أقرب مذاهب الشيعة إلى مذهب أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه الذي اخذ عن جعفر الصادق صاحب المذهب الاسلامي المشهور، نعم لم يكن السيد محسن عالما ومجتهدا فقط وانما كان صاحب رسالة بشر بها وعمل لها طيلة حياته الطويلة الحافلة بجلائل الأعمال وعظائمها، لقد قرب السيد محسن بين الجعفريين والسنيين وبدد تلك الأوهام السائدة التي كانت تفرق بين المذهبين الكريمين، وحمل البسطاء من الجعفريين ان يتركوا الخرافات التي جاءت بها الوثنية وأدخلتها على مذاهب السنة ومذاهب الشيعة مجتمعة واتخاذ المذاهب الاسلامية من قبل الطامعين من رجال السياسة، من أجل الخلافة ومن أجل السلطان.
لقد عمل فقيدنا الغالي لهذه الغاية النبيلة طيلة حياته فكان موفقا في دعوته موفقا في جهاده موفقا في رسالته.
وقد ساهم رضي الله عنه في الثورة الوطنية على فرنسا، وفي النهضة الوطنية التي حمل دعوتها رجال الرعيل الأول فلقوا في كنفه كل عون وفي جاهه كل تأييد فكان رسول الوطنية كما كان رسول الحرية يصرخ في وجه الظلم ويعمل لهدم الاستعمار البغيض!
اننا إذ نلقي النظرة الأخيرة ننحني بخشوع واحترام على الجسد الطاهر الذي لم تفسده أغراض الدنيا ولم تلوثه اعراض المادة.
اننا نشيع اليوم ثلاثة أجيال من العلم الصحيح، نشيع عالما مجتهدا قل ان يجود الدهر بنظيره، وهو البقية الباقية من السلف الصالح رضي الله عنه، لندفنه تحت أذرع من تراب في ضواحي دمشق الخالدة.
نشيع العالم والمجتهد الذي أحبته دمشق وأحبته بيروت وأحبه جبل عامل وأحبه جميع العرب والمسلمين، إلى مرقده الأخير، إلى جوار السيدة زينب أخت الحسين شهيد كربلاء ابن علي رضي الله عنه وابن فاطمة البتول بنت رسول الله ص.
ففي ذمة الله مجتهدنا الأكبر، وفي ذمة الخلود سيدنا ومحسننا وأميننا، والى جوار أهل البيت الشهداء والصالحين الأبرار، يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي.
في بغداد وكذلك فعلت جميع صحف العالم العربي فقد قالت جريدة النبأ البغدادية تنعاه تحت هذا العنوان:
رزء اسلامي كبير، سماحة الامام محسن الأمين في ذمة الله.
استأثرت رحمة الله يوم أمس بعلم من اعلام الدين الاسلامي الحنيف ورجل من رجال البر عاش محبوبا. وقطع طريق الحياة في تسعين عاما أو تنقص قليلا ساعيا في الخير مخلصا حياته للعلم والدين والدعوة إلى الاصلاح فلما دعاه الله إلى جواره استقبل وجه ربه راضيا مرضيا، ذلك هو سماحة الامام الكبير السيد محسن الأمين العاملي مؤلف الموسوعة التاريخية العظيمة أعيان الشيعة ووالد الشاعر العربي المعروف الأستاذ حسن الأمين والأديب الموهوب السيد عبد المطلب الأمين.
وقد ولد سماحة الامام الفقيد في جبل عامل سنة 1284 للهجرة وبهذا يكون قد عمر سبعة وثمانين عاما أنفقها في تثبيت أسس الدين في النفوس وايضاح الرسالة الإنسانية النبيلة التي جاء بها الاسلام لإقامة مجتمع فاضل سعيد. وقد قضى سماحته صدر حياته طالبا للعلم في مدارس جبل عامل فلما بلغ الشباب هاجر إلى النجف الأشرف ينتجع العلم في مواردها العذاب على أيدي كبار مجتهديها ويستمد عمقا في الايمان وشغفا بالحرية من النور المتوهج من قبر البطل أبي الأبطال الإمام علي ع، حتى إذا أتم تحصيله وبلغ فيه مبلغ الاجتهاد الكامل وأجيز بالفصل بين الناس وتعليمهم أصول دينهم عاد إلى لبنان ناهضا بأعباء رسالته الدينية ردحا من الزمن استقر بعده في الشام يعلم ويرشد ويؤلف حتى تمخضت جهوده الكريمة في المجال الاجتماعي عن توثيق روابط الحب والتعاون بين تابعيه وغيرهم وعن مؤسسة علمية بعيدة الأثر هي المدرسة المحسنية للبنين والبنات.
وكما أخلص حياته للدين وهبها كذلك للعلم والتجرد للسعي وراء الحقيقة فكان ثمرة جهده في هذا الباب كتابه الخالد أعيان الشيعة الذي أتم منه للآن 35 مجلدا ولم يصل إلى منتصفه وقد أعجله الموت عن اكماله.
هذا وقد استأثرت بروحه رحمة الله وهو في بيروت ونقل جثمانه في موكب مهيب إلى دمشق حيث يوارى التراب هذا اليوم في جوار ضريح السيدة زينب وستخرج الشام كلها لتشييعه. وقد تناقلت الإذاعات العربية نبا وفاته وأفاضت في الحديث عن أياديه البيضاء وماثره الجمة في خدمة الاسلام والمسلمين.
ان الفراع الذي تركه الفقيد كبير لا نحسب ان من الممكن ملأه في القريب العاجل على الأقل فقد كان سماحته مجاهدا في صمت عاملا في هدوء مخلصا في عقيدته ثابتا عليها متفانيا في خدمتها لم يرعه ظلم ولا بغي، فمضى في طريقه قدما حتى أدى رسالته على وجهها الأمثل فكانت آثاره بارزة في كل شئ، ولهذا كله كانت الخسارة به عظيمة والمصاب به أليما.
لقد كانت حياته وجهاده مثالا نبيلا للرجل الكريم الذي يعرف كيف يجاهد وكيف يتألم وكيف ينتصر بحكمة وهدوء وثبات وبعد نظر وتقدير صحيح للنتائج والمقدمات فلم يهن يوما ولم يتراجع ولم ينكص يوما عن عقيدة اعتقدها وايمان طوى جوانحه عليه.
ان النبأ إذ تعزي العالم الاسلامي بهذا المصاب الأليم لا يسعها الا ان تتقدم بخالص العزاء إلى أسرة الفقيد الكبيرة ولا سيما الصديقين الكريمين