بالقناعة. فبهت الضابط الفرنسي وقام متحاملا على نفسه منصرفا بين العجب والاعجاب.
واجمال القول عن سماحة الأمين انه علم من اعلام الثقافة في عصرنا علما واصلاحا وصلاحا، بل أكبر مجتهد في زمنه بلا نزاع، ولكأنه في فضائله الجمة، وفي رأسها العزوف عن أباطيل الحياة الدنيا أحد الأئمة في القرن الأول الاسلامي لا القرن الرابع عشر الحالي.
حمل رسالة العلم وصنف، وأنشأ المعاهد وجمعيات التعليم قضاء على الجهالة وتنويرا للأفكار وتغذيتها، وتربية للطباع وترقيتها.
وحمل رسالة الدين، فهذب وهدى وطهر وزكى وحمل رسالة الاصلاح، فأسس جمعيات البر والاحسان، وحقق العدالة الاجتماعية بما أطاح من الأوهام التي أكسبتها قرون الظلم صفة القداسة.
ولو كان في الاسلام والعرب من مثله عدد الأنامل لكانت والله كلمتنا هي العليا، ورايتنا هي الخفاقة ومجدنا فوق الأمجاد جميعا.
الزاهد بقلم: الشيخ محمد جواد مغنية ربما يتساءل الناس إذا كان لم يعد للدين وزن ولا اثر في النفوس في هذا العصر فمن أين هذه العظمة للأمين المحسن، وهو رجل الدين الأول، ورئيس العلماء الأكبر! وما هذا الدوي الهائل الذي كنا نسمعه خلف جثمانه، وهذا السيل الجارف من الشعب والحكومة في سورية ولبنان حول الجثمان وخلفه وأمامه! هذا الحشد الذي ضم جميع الهيئات الدينية والسياسية والشعبية كبارها وصغارها من جميع الطوائف والأديان، ولماذا ملأت الصحف! في الأقطار العربية أعمدتها على الصفحات الأولى تشيد بعظمة الفقيد تعدد فضائله ومناقبه! وما سبب هذه الهزة العنيفة التي زلزلت العالم العربي والإسلامي عندما سمع نبا وفاته!
أجل لقد غيرت التطورات الأخيرة كثيرا من الأفكار والاتجاهات، وكشفت الغطاء عن كل مموه زائف، ولكنها عجزت عن مقاومة الحق الذي يتمثل بشخصية الفقيد، فأرغمت على الاعتراف بسلطانه، والنزول على حكمه.
اعتمد الفقيد على العمل والاخلاص لا على الرياء والتضليل، ولا على الأنساب والألقاب وهل يفخر بأكفان الأموات وترابهم غير الحقير الأعزل من سلاح الحياة، انتسب الفقيد إلى حقيقة الدين وجوهره لا إلى اسمه ومظهره، فانتسب إليه العلم والدين، فهذي المدرسة المحسنية مضى على خدمتها للعلم والإنسانية نصف قرن، وهذي المؤلفات تعد بالعشرات، وهذا كتاب الأعيان من أعظم وأضخم ما تركت أمة من تراث خالد وهذا الجهاد المستمر لتوحيد الكلمة، وجمع الصفوف، وهذا الكفاح لكل مستعمر ومستثمر، خلال اصطفى لها الله أمينه المحسن.
ان الكثير منا يملك العلم والذكاء ولكن ما ذا يجدي العلم والذكاء إذا أديا إلى لغو لا خير فيه! وما ذا يجدي الجاه والمال إذا كانا سببا للتحاسد والتباغض! بل ما ذا تجدي الهجرة إلى النجف والأزهر وأكسفورد والسوربون إذا لم تكن لغايات انسانية ولم تدفع بالحياة إلى التقدم وكيف تتقدم بنا الحياة أو نتقدم بها، إذا كنا نجهل الحياة، وتستعبدنا الشهوات!
لقد انبعثت نفس الفقيد من صميم العصر الذي عاش فيه، وتجرد عن ذاته وغاياته، فكان كفؤا لكل ما القي عليه من مسؤوليات، تسعين عاما من حياته قضاها مجاهدا في سبيل العلم والخير مدافعا عن الحق دفاع من لا يبغي حطاما، ولا يخشى سلطانا، فكان في جبل عامل والعراق ودمشق لا وزن عنده الا للحق، ولا فضل الا لعامل على خير الوطن والصالح العام كائنا من كان سنيا أم شيعيا. مسلما أم غير مسلم وهذه هي السبيل الواضحة التي يصل منها الإنسان إلى العظمة المطلقة التي تتخطى حدود الأمصار والأديان لأنها كالشمس فوق الحدود جميعا لقد كان الإنسان انسانا قبل ان يكون شرقيا أو غربيا وقبل ان يكون مسلما أو نصرانيا وهكذا العظمة وحب الخير لا يجنسان جغرافيا ولا تاريخيا ولا دينيا ولا هوية لهما غير حقيقة الإنسان بمعناه الشامل، ان الزمان والمكان لا يغيران شيئا من حقيقة الإنسان، وانما هما ظرفان لما يقوم به من اعمال، وان معنى الدين هو الشعور بالمسؤولية تجاه أخيك الإنسان، ومعنى الايمان هو اخضاع حياتك لهذا الشعور، ان المسيح لا يريد النصراني الماروني أو الرومي وانما يريد النصراني الإنساني، ومحمد لا يريد المسلم السني أو الشيعي، وانما يريد المسلم الإنساني، هكذا فهم الفقيد الاسلام والايمان فاخضع حياته لهذا الشعور وبهذا كان عظيما عند المسيحيين كافة والمحمديين كافة.
وربما يتساءل المرء: كيف اجتمعت هذه العظمة مع تلك الحياة المتواضعة التي كان يحياها الفقيد والبساطة في مظاهره كلها في ماكله وملبسه ومسكنه، فلا بواب ولا حجاب، ولا سيارة فخمة، وبناية ضخمة، وقد رأيته، وانا جار له في الشياح واقفا في دكان قصاب يشتري اللحم ويحمله بيده إلى أهله، ورأيته يمشي منفردا متثاقلا يدفع بجسمه المريض المتهدم يزور العمال البائسين في بيوتهم، فيجلس إليهم ويطايبهم، ويسمع منهم، ويستمعون إليه، قد يتساءل المرء: أ هذا حقا هو الذي احتشدت الأمة بقضها وقضيضها خلف جثمانه! أ هذا حقا هو الذي كان بالأمس يحمل اللحم بيده! أ هذا حقا هو الذي كان يمشي وحيدا في الشارع ويجلس على الحصير مع البائس والفقير! نعم هو هو!
وهذا الرسول الأعظم الذي قرن اسمه باسم الله في الصلاة، وعلى المنابر والمآذن ودانت بأقواله ملايين الملايين في مشارق الأرض ومغاربها هو الذي كان يخصف نعله، ويرقع ثوبه بيده ويعقل البعير، ويقطع اللحم، ويحلب الشاة، ويطحن مع الخادم، ويجلس على الأرض مع الأسود والأبيض، هكذا كان الرسول الأعظم وهكذا اقتدى به سليله المحسن الكبير. وما هذا الاحتقار للمادة الا مظهر الكمال والاعتداد بسلامة النفس، الاعتداد بالعلم والنزاهة والعمل والاخلاص وحيثما وجدت الترف والزينة وجدت الاستغلال والخيانة وحيثما وجدت التواضع وجدت الحق والصدق.
كان مسجد الرسول الأعظم في عهده وعهد الخلفاء الراشدين هو البرلمان والسراي الكبير وقصر العدل ولم يكن هذا الجامع سوى قليل من