مهما تحتمل تلك الأخبار من نقد فما يليق بي ان أتجاوز عن كتب ثلاثة تعكس إلى حد كبير لمعة من طراز تفكيره.
وأحب ان أقدم الكلام على آخر هذه الكتب عهدا في تاريخ حياته أعني كتاب نقض الوشيعة، لما خاض موسى جار الله التركستاني في نقد عقائد الشيعة، برز له زميلكم رحمه الله يدرأ مطاعنه الجارحة.
وكان لا بد، لدفع ما ألصق بالمذهب من تهم ووصمات ان يجئ الكتاب على الأسلوب الجدلي. وأنتم تعرفون ما ربما انطوى عليه هذا الأسلوب من منطق العواطف الذي يجعله الميزانيون مرادفا لتمويهات الغرض والهوى أرجو ان تعفوا عن هذه الإشارة، فالتعبير لمناطقة بوررويال.
والحق ان ذلك الكتاب على الرغم من هذا التحفظ ليروع قارئه بايمان المجتهد الكبير وسعة احاطته وقوة حجته ودامغ برهانه. حتى أنه ربما قاده لإعادة النظر في مواقف كان في نفسه منها شئ كأمر التلاعن والتطاعن وعصمة الامام والتقية ونكاح المتعة وما إلى ذلك. وأشهد ان المرء، في كثير من المواضع التي يبدو عليها ان ظاهر الحق في جانب الخصم، لا يلبث ان يخرج ميالا إلى العكس بعد سماع الرد.
فاما الكتاب الثاني فهو كشف الارتياب في أشياع محمد بن عبد الوهاب، وهو كما يتجلى من عنوانه مخصص لمناقشة المسائل التي يقوم عليها مذهب السلفية الوهابية كتحريم البدعة، وهدم القبور، وانكار الشفاعة والاستغاثة والتوسل والحلف بغير الله والنذر والتبرك والتدخين والاجتهاد وغير ذلك من الأمور المشهورة. ولقد يعجب الناظر في هذا الكتاب لكبرى البوائق يرمي بها السيد خصومه مذ ينقل له عن مصادر موثوقة أو غير موثوقة مثل قول امام مذهبهم: الربابة في بيت الخاطئة أقل اثما ممن ينادي بالصلاة على النبي في المنائر!. ولقد يداخله الدهش لتشبيه الوهابيين بالخوارج من ثلاثة عشر وجها ولكنه لن يحتاج إلى عناء كبير في كشف السر، ان هو التفت إلى المقدمة فطالعته بالمقطع التالي:
الحمد لله... وبعد، فلما ضعفت شوكة ملوك الاسلام، وكان من ذلك استيلاء الوهابيين من اعراب نجد على... الحرمين الشريفين وهدم مزارات المسلمين ومنها قبة أهل البيت ع. وقباب مواليد النبي ص. وجعل قبور عظماء المسلمين. معرضة لدوس الاقدام ووقوع القذارات وروث الدواب والكلاب فاحرقوا بذلك قلوب المؤمنين جئت بهذه الرسالة.
واما الكتاب الذي يعد واسطة العقد في تاليفه والذي اعتقد انه من الأوابد الخوالد الشوارد في تراثنا الاسلامي فهو أعيان الشيعة لقد كان في مشيئة السيد ان يجعل من معلمته تلك مرجعا تاريخيا لفرق الشيعة في الدول الاسلامية، و لعقائدها في الأصول والفروع، غير أنه آثر ان يجتزئ باستقصاء اخبار الامامية الاثني عشرية: علمائها، ومتكلميها، وأصولييها، وفقهائها، ومؤرخيها، ونسابيها، وجغرافييها، ومنطقييها، ومنجميها، وأطبائها، ونحوييها، وصرفييها، وبيانيها، وشعرائها، وعروضييها، وأدبائها، وكتابها، ومصنفيها في فنون الاسلام في كل عصر. على أنه لم ير ان يحشد بين أولئك من لم يقل في حقه الا عبارة مختصرة كقولهم: ثقة، أو عين، أو صدوق، أو له كتاب، أو لا باس به، أو ضعيف، أو من رجال أحدهم ع، أو عالم فاضل معاصر، أو عالم صالح، أو يروي عن فلان أو يروي فلان عنه، أو نحو ذلك.
ليس من المبالغة هاهنا ان يقال عن السيد محسن رضوان الله عليه انه ارتفع بهذا المؤلف إلى مصاف أكابر الرجاليين في تاريخنا كابن عبد البر، وابن جحر العسقلاني، وابن سعد واضرابهم من أمثال الخطيب البغدادي وابن عساكر وياقوت الحموي وابن خلكان والصفدي ومن إليهم. ولئن كان فيه مستقصيا متتبعا محققا إلى الغاية التي تنوء بالوسع فان أصالته وميزته على حسب ما أظن في انتصاره الوفي لفضلاء أهل البيت، واشارته المنصفة إلى ما نالهم من ظلم ونسبة باطلة، ثم في حملته الجريئة على من عرض لهم بالوقيعة أو التحامل.
تراه إذا ذكر قوم ان أبا العيناء ادعى خطبة الزهراء بعد ان منعها الصديق فدكا، أو ان نهج البلاغة هو للشريف الرضي، لم يحجم ان يحتج على النقيض ثم يقرر: هذا باطل لا يلتفت إليه بعد رواية الثقات له وتصحيحهم إياه... ولذا جرى للرافعي في اعجاز القرآن لغو غير مهذب في حق الرافضة، لامه السيد لوما عنيفا على اتقاد نار العداوة والعصبية في قلبه الذي أنطق لسانه بالفحش وأخرجه إلى سوء القول، وكذلك فعل بالدكتور احمد امين وبالأستاذ محمد ثابت المصري طوال مائة وثلاثين صفحة مرصوصة من كتابه. ومن الطريف انه لما عتب على استاذنا المغربي لأنه لم يقرظ كتبه غير المتصلة بالأدب والشعر، لم يجد بدا من أن ينهي كلامه بالمنافحة الشديدة عن الشيعة والتعريض الساخر على طريقة إياك أعني بمذهب الحشوية قال: ولم يدخلوا في معتقداتهم ان الله ينزل كل ليلة جمعة إلى سطوح المساجد، ولا ان النبي رآه في ليلة المعراج بعيني رأسه، ولا ان العبد مجبور على أفعاله ومثاب ومعاقب على ما أجبر عليه.
ولعلكم، سادتي، أغضبتم زميلكم ذات مرة إغضابا شديدا حتى دفعتموه لأن يقول عن مجلتكم ما ليس من الأناقة في هذا المقام إعادة روايته بمسمع منكم وحسبي في الاعتذار لسلفي ان أقول: لم يكن في حياته غفر الله له من دم مسفوح ولكن في اهاب هذا الشيخ الجبار ذي الهامة الهرقلية نفسا كنفوس أولئك التوابين بعين الوردة الذين استماتوا في صفوف سليمان بن صرد والمسيب الفزاري ثارا لدم الحسين!
وبعد، أيها السادة، فان أسفي شديد لاني لم أسعد بلقاء زميلكم والتعرف عليه عن قرب حتى أجلو لكم خصائص خلقه وشخصيته، ولكن أصدقاءه وتلامذته يرسمون له صورة تستهوي الأفئدة في بساطتها وسموها على السواء.
لقد أشادوا بما عرفوا فيه من تواضع وزهد بالجاه وعزوف عن المنزلة واحتقار للمظاهر الباطلة الغرارة. ذكروا انه ما بالى قط متاع الحياة فاجتزأ بما يسد البلغة ويقوم بالأود: كان يسعى لشأنه بنفسه، ويباشر بيده تهيئة