ما ورثه من مخايل النجابة وبعد النظر والحزم؟ أ ولا يراه في دامس المحنة يضرب بحديد بصره في حاشية الجزار فيتخير لصداقته أميرا مصريا يعقد به أواصر المودة ويتساقى معه في مكتبه رحيق المعرفة، حتى إذا دار بالجزار وبخليفته سليمان الدهر ألفاه في شخص عبد الله باشا مقتعدا سرير عكا فيفد عليه ويجد عنده الحظوة والرعاية؟ إما الحظوة فاعظم بها بادرة يوم أعلى الصديق كعب صديقه في الفقهاء، إن كان له الفلج عليهم في ايجاد مخرج ليمين كادت تحرم على الأمير زوجة حبيبة! وأما الرعاية فناهيك بالصوانة ضيعة وافرة الغلة زهيدة الخراج يقطعها الصديق صديقه، وليس من ذنبه بعد ذلك ان جاء الحساد على وغر في الصدر مكنون يدسون السم للمنعم عليه في قهوة البن، وأكبادهم تتلظى موجدة وكيدا!.
في ذلك الجو الملئ بالمآسي والمفاخر والمحامد دينا ودنيا، تتفتح مخيلة السيد محسن ابن السيد عبد الكريم: أنى تلفت ذهن الغلام اليافع لم يبصر الا مواكب الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا! فيم إذن لا يجتذبه نداء مناديهم وقد قرع سمعه من أغوار التاريخ؟ وعلا م لا يتخذ عدته فيغذ السير للحاق بركبهم والوقوف في صفهم؟ الا ليهرع إلى مدارس ناحيته فلينكب على كتاب الله وحديث رسوله، وليجهز نفسه بعلوم الآلة التي قيل له انها لهما بمثابة المفاتيح. هذا هو يتأبط ابن الناظم والرضي والجاربردي والملا جامي والدسوقي والدماميني والشيرواني وأمثال تلك المتون والشروح الصارمة فيمضي فيها نظرا وتعليقا واستخلاصا. وها هو ذا يجود الذكر الحكيم فيرتل خاشعا قوله تعالى: قل لا أسألكم عليه اجرا الا المودة في القربى ويقف طويلا عند قوله: انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا. ثم ها هو ذا يفتح تفسير الطبري فينال من نفسه ما رواه من قول امام الهدى في علي كرم الله وجهه:
ان هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، وينظر في مستدرك الحاكم فتهتز جوانحه لما خوطبت به فاطمة: أ لا ترضين ان تكوني سيدة نساء العالمين فداك أبي وأمي؟ فإذا قرأ في خطبة الوداع: اني قد تركت فيكم ما ان أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، استبان له الدرب ونذر حياته للسلوك فيه على هدى الكتاب العزيز وهوى العترة الطاهرة:
حبي لآل المصطفى * خالط لحمي ودمي هذا لساني دائب * في نصرهم وقلمي حتى توارى في ضريحي * بعد موتي اعظمي ولكن آفاق شقرا وتبنين وهونين ومجدل سلم أضيق من أن تتسع لمطامح الشاب النابة وهذه نسائم سر من رأى والكاظمية وكربلاء والنجف الغروي تمر رخاء بقلبه فتهيج الشوق فيه وتبثه أمل ساكنيها الأبرار في حلوله بين ظهرانيهم. ما بال الرجل الشخيص الأيد لا يهجم إذن على شد الرحال إليهم، ولو فت في عضده أب هرم أضر بعينيه الزمان، ما دام قد استخار الله بذات الرقاع، إليكم السيد ينحدر إلى صيدا فبيروت، ويركب البحر منها إلى الإسكندرون ليلوي على حلب ويخرج عنها إلى البادية فالفرات فبغداد، ويلقي العصا أخيرا في النجف الأشرف. لكأني به وقد بلغ الحمى إذ ذاك يستخفه وجد شديد وهو يصغي إلى هاتف يحمل إليه نشيد السيد الحميري:
امرر على جدث الحسين * فقل لأعظمه الزكية آ أعظما لا زلت من * وطفاء ساكبة رويه وإذا أنخت بقبره * فاطل به وقف المطية وابك المطهر للمطهر * والمطهرة التقية كبكاء ثاكلة أتت * يوما لواحدها المنيه نعم انه ليستجيب فيبكي طويلا إذ يذكر فاجعة العطش، وينظم من المراثي المشجية في الحسين وامه وأبيه وبنيه ما يملأ ديوانا كاملا. ثم إنه ليطيل وقف مطيته عشر سنوات ونيفا كي يكرع ويعب وينهل ويعل من سلاف المعرفة موجها إلى تحصيل العلم كما يقول همة أعلى من الضراح وعزمة امضى من بيض الصفاح!...
في هذا الطور من حياة زميلكم تغنى بضاعته ما شاء الله ان تغنى، وتطول باعه في الدراية والنظر. انه لا يكتفي ان يقرأ المنطق والفرائض والأصول سطحا وخارجا... على أيدي مشيخة اعلام كالهمذاني والخراساني والأصفهاني ومحمد طه نجف وغيرهم من أئمة العرب والعجم.
بل هو يشرع في التأليف على كثرة الهموم والعيال فيحبر مجلدات في الفقه والتوحيد والأخلاق، ويجمع كتبا في التاريخ والحديث والجدل حتى يطبق أساتذته على أنه ترقى من حضيض التقليد إلى أوج الاجتهاد.
بيد ان لواعج الشوق إلى الديار تبرح بزميلكم قبل ان يهدف إلى الأربعين، فلا ضير عليه وقد نال بغيته من دار هجرته، ان يرجع إلى الوطن حاملا معه مشعل دعوته. ولامر ما يعزم أن تكون عاصمة تلك الدعوة دمشق. مذ ذاك يتخذها سكنا لا يبرحه اللهم الا لحج أو منسك أو إقامة يسيرة في مسقط رأسه. ومذ ذاك تستعد هذه المدينة السمحة لشهود نشاط شيعي منقطع النظير. فكان الزمان شاء لبني هاشم خلال خمسين سنة كاملة ان يعيدوا مع بني عمهم من ولد مروان حساب التقاص في دار أموية!...
لست أقوى، سادتي، على تناول هذا النشاط الهائل في تفصيله ولا مجمله. وبحسبكم لتصور الحرج الذي داخلني من هذا الشأن ان تعلموا ان مجمعكم زاده الله بسطة في العلم بعث إلي من أجل اعداد هذه الكلمة بسبعة وخمسين مؤلفا من مؤلفات الشيخ، أذكر ان قد ورد يومئذ على البال موقف جان بول سارتر الفيلسوف الفرنسي المعاصر إذ أحجم عن تلخيص مذهبه الوجودي لمجلة لايف في مقال مقتضب طلبته إليه.
ولكن هل من سبيل للاحجام عن تلبية طلبتكم؟
تسمحون لي إذن، أيها السادة الا أخوض في جزء كبير من ذلك التراث، وان اكتفي فأقول فيه ما قيل في كتب حجة الاسلام الغزالي من أنها : لو وزعت على أيام عمره، لأصاب كل يوم منها عدة كراريس! بيد اني ان اضطررت للمرور سريعا بتلك المجاميع اللطيفة التي ضم فيها المؤلف طرفا إلى طرف بعض الأخبار المتصلة بعلم مذكور أو حادثة شهيرة