والعلماء في دنيا العروبة والسلام لبثوا محط الرحال، ومعقد الآمال ومنار التوجيه ومصدر الحكم والقيادة بل كانوا الملوك على الملوك إلى أن تحللت النزاهة من نفوسهم واستهانوا بالصدق والصراحة ومالوا إلى المظاهر وأحالوا علمهم وسيلة إلى المنافع القريبة والمطامع الضئيلة.
والناجون من هذه العلة بين علمائنا المعاصرين أقل من القليل.
وفي طليعتهم الامام الأمين.
فلقد سلخ عمره على مثال العفة والكرامة لم تعلق به ماثمه ولا محرجة ولم تختدعه المغريات عن نفسه على وفرتها من حوله لا ولم يتحول عن مهمته في تبليغ رسالته الاصلاحية شابا وكهلا وشيخا.
كانت تغدق عليه الآلاف ذهبا فما يمسها ويحولها للحال إلى وجوه البر مؤثرا منها العلم يشيد بنيانه ويدعم أركانه ليكفل حياة النور للنشء الجديد.
وكانت تسعى إليه المراتب الحكومية العليا في الرئاسة والقضاء فيتأبى عليها ما يرضى بدلا بالرئاسة الدينية العلمية التي انتدبه لها ربه لينهض بها حرة خالصة لوجهه.
وكان يقضي بين الناس، وربما اجتمع إليه الغني والفقير والقوي والضعيف والقريب والبعيد، فلا يصدر حكمه الا منزها عن الهوى.
وكانت تبلغه الصيحات من حوله أو عن بعد، مدوية بالسخط واللوم والحقد وما إلى ذلك، ولا لسبب غير فتاواه في طلب الاصلاح ونبذ الجمود ومسايرة الزمن، فلا يقابلها بغير الرضا والسكينة يتخذ منها قوة جديدة لمضاعفة الجهاد وتوسيع مدى الاجتهاد.
وكان الأكثرون يعهدون إليه بالوصاة على أموالهم وعيالهم من بعدهم فينهض بالواجب على أتمه، ويؤدي الأمانة على حقها، محتملا من المشقة والكلفة ما لا طاقة لغيره بمثله.
ووالله لو كان ممن يطمعون بالمال وزينة الحياة الدنيا في ظل البحبوحة والاقبال، لكان له من مواده الغاية التي لا غاية وراءها، ولأقتني الدور وشاد القصور وامتلك الضياع ومشى بين يديه الخدم والحشم، ولكنه عف واستقام، وترفع عن الحرام ورضي بالكفاف الحلال رضاء القناعة والكمال.
وهو في هذا شانه في التواضع أيضا تواضع في المظهر على نحو أصحاب المطالب البعيدة ينصرفون بجميعهم إليها، فتصرفهم عن الاحتفال بغيرها، وتشغلهم عما عداها مما يقيم له الناس عادة أكبر وزن، بعدئذ غدا للمظاهر شأنها في الحياة الاجتماعية ومعناها في رفع معنى أصحابها على قدر العناية أو عدم العناية بها.
وتواضع في الأسلوب يقوم على البساطة في الحديث مع مختلف الطبقات، وفي استجابة الدعوات لدى الأغنياء والفقراء على السواء وفي الجلسات المطمئنة عند المصطفين من أرباب المتاجر، وفي الطعام يتناوله على الأرض العراء أو شبه العراء، وهو لملء المعدة فوق ما هو للغذاء، وفي تشييع الراحلين ما يتخلف الا لعذر، وفي العطف على اليتامى والأيامى والمساكين.
لم ير يوما متأبها مزهوا على علمه وفضله وحسابته في أصله ونبله، وعلى رفعته عند الكبراء والعظماء من الملوك والزعماء بل لبث حياته ابدا كالشجرة الفينانة الوارفة المطمئنة بما اثقلها من رازح الحمل، يجوزها المارة لينعموا بوارف ظلها وفيئها، ويجتنوا من زهرها أو يطعموا من يانع ثمرها فهي الخير المشاع المباح.
وكثيرا ما بلغت به سهولة الخلق الحد الذي ينكر على مثله، كان يأبى وهو بين جمع من مريديه يصحبونه إلى بستان أو يرافقونه في سفر، الا ان يكون منهم مثل ما يكونون منه يشركهم في تهيئة الطعام ويضطلع بتبعته من مجمل العناء، ويتنزل في المباسطة والمفاكهة إلى حيث يكفل لهم الصفو والهناءة والتطلق حتى لا يكاد يلفت الغريب من امره ما يميزه عن غيره.
وللأمين، أحسن الله إليه، في باب الوطنية ما يسجل بمداد الاكبار والاعظام، وكانت وطنيته من الطراز الراقي الناهض على التعقل والحكمة.
قاوم الاستعمار أشد مقاومة بوقوفه سدا منيعا تلقاء مطامعه الخاتلة ومراميه النادرة في تفريق الشمل وبذر الأحقاد والاستهواء بالمال والوظائف.
وأشهد بين يدي الله انني كنت ذات يوم ترجمانه إلى أحد الضباط الفرنسيين وقد أوفد من قبل المفوض السامي لعرض أكبر منصب ديني على الامام الفقيد مع ما إلى هذا المنصب من امتياز في الحياة اليومية، فكان جوابه الرفض والاستنكار لأنه موظف عند ربه يؤدي رسالته كما أمر بها لوجهه فلا قبل له ان يكون موظفا عند المفوض الفرنسي يأتمر بأمره ويتحرك بإشارته.
وأشهد كذلك انه أدى خير ما يؤديه مثله لوطنه في إصدار الفتاوى لصالح العروبة في كل أزمة جازتها وخاصة في قضية فلسطين.
ولأضف إلى خلائقه وخصائصه ما اشتهر عنه من جودة الرأي وشجاعة القلب والصبر على الشدائد والعفو مع المقدرة وحسن المعاملة والتحرر من العصبية الذميمة والبر بالغريب والعطف على القريب وتنشيط العاملين والرجوع عن الخطا حين يستبين، هذا فضلا عن اجادته السباحة وركوب الخيل وغيرها من الرياضات النافعة.
ولتلك فضائل يحجبها المعنى الواحد حين تذكر انها ترسم للمثالية العربية الاسلامية في أيقظ أوقاتها وأروع آياتها.
فمترجمنا سليل البيت الطاهر وصاحب المحتد الأثيل. وقد توفرت له العوامل التي تجعل من شخصيته فرعا زكيا من هاتيك الدوحة التي استنبتها صاحب الرسالة الكريمة.
انه في أخصر وصف صورة مشرقة لمثل علي واحفاده الميامين في خلائقهم السليمة القويمة.
أجل وانه العالم العامل الذي عرف كيف ينفع الملايين بعلمه وعمله. وهل ثمرة العلم غير العمل. وهل عمل فقيدنا الكريم الراحل