تعليم أولادهم وتأديبهم، وكثيرا ما وجد الملوك عند هؤلاء الرأي الحصيف والمشورة الصائبة. فليس من باس إذن، أن يتردد الفراء على باب المأمون ليتبوأ مكانه في مجلسه. بينما هو ذات يوم على الباب إذ جاء أبو بشر ثمامة بن الأشرس وكان خصيصا بالمأمون، قال ثمامة: فرأيت أبهة أديب فجلست إليه ففاتشته عن اللغة فوجدته بحرا، وفاتشته عن النحو فشاهدته نسيج وحده، وعن الفقه فوجدته رجلا فقيها عارفا باختلاف القوم، وبالنجوم ماهرا، وبالطب خبيرا، وبأيام العرب واشعارها حاذقا، فقلت له: من تكون؟ وما أظنك الا الفراء، فقال: أنا هو، فدخلت فأعلمت أمير المؤمنين المأمون، فامر باحضاره لوقته وكان سبب اتصاله به. (1) وصار الفراء يختلف إلى مجلس المأمون، والمأمون يظاهر عليه من يسائله في النحو ويناظره في اللغة، إلا أنه كان يهزمهم تباعا، ويفحمهم، والمأمون عالم قبل أن يكون حاكما، خبير بأقدار العلماء ومراتبهم، فقد آنس في يحيى بن زياد حذقا وسعة اطلاع. يقول الخطيب في تاريخ بغداد:
فامره بان يؤلف له ما يجمع به أصول النحو، وما سمع من العربية، وأمر أن يفرد بحجرة من حجر الدار، ووكل به جواري وخدما يقمن بما يحتاج إليه، حتى لا يتعلق قلبه، ولا تتشوق نفسه إلى شئ، حتى أنهم كانوا يؤذنونه بأوقات الصلاة، وصير له الوراقين وألزمه الأمناء والمنفقين، فكان يملي والوراقون يكتبون، حتى صنف الحدود في سنتين.
وبعد أن فرع الفراء من تصنيف الحدود، قال لأصحابه يوما:
اجتمعوا حتى املي عليكم كتابا في القرآن الكريم، وجعل لهم يوما، فلما حضروا خرج إليهم وكان في المسجد رجل يؤذن فيه، وكان من القراء فقال له: اقرأ، مبتدئا بفاتحة الكتاب ففسرها، ثم مر في الكتاب كله على ذلك، يقرأ الرجل ويفسر الفراء قال الراوي: وأردنا أن نعد الناس الذين اجتمعوا لاملاء كتاب المعاني، فلم نضبطهم، فعددنا القضاة فكانوا ثمانين قاضيا.
وشد ما يدهش المأمون هذا السفر العظيم الذي استهوله القراء والمفسرون، ونال ثناءهم واعجابهم، حتى قال قائلهم: كتاب المعاني كتاب لم يعمل مثله، ولا يمكن أحدا أن يزيد عليه. فكانت الرغبة شديدة في نفس المأمون، والظرف محوجا في نظره، بان يدفع بولديه إلى الفراء ليلقنهما النحو والصرف ويغرس في نفوسهما التأدب، فما كان من الفراء الا أن يكون بمستوى المسؤولية التي أنيطت إليه، فلم يبخل على هذين الحدثين بجهد، ولم يضن عليهما باهتمام، حتى صارا شديدي التعلق بأستاذهما، لا يأنسان الا إلى قربه ومعسول أحاديثه، فضلا عما كانا يكنان له من تجلة واحترام. فقد نهض يوما إلى بعض حوائجه، فابتدرا إلى نعله يقدمانه له فتنازعا أيهما يقدمها، فاصطلحا أن يقدم كل واحد منهما فردا، فقدماها، وكان المأمون له على كل شئ صاحب خبر، فرفع ذلك الخبر إليه، فوجه إلى الفراء من استدعاه، فلما دخل عليه قال: من أعز الناس؟ قال: ما أعرف أعز من أمير المؤمنين، قال: بلى من إذا نهض يقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين حتى رضي كل واحد منهما أن يقدم له فردا، قال: يا أمير المؤمنين لقد أردت منعهما عن ذلك، ولكن خشيت أن أدفعهما عن مكرمة سبقا إليها أو اكسر نفوسهما عن شريفة حرصا عليها، وقد روى عن ابن عباس رض أنه أمسك للحسن والحسين رضي الله عنهما ركابيهما، حين خرجا من عنده فقال له بعض من حضر:
أ تمسك لهذين الحدثين ركابيهما وأنت أسن منهما؟ فقال له اسكت يا جاهل، لا يعرف الفضل لأهل الفضل الا ذوو الفضل، فقال له المأمون:
لو منعتهما عن ذلك لأوجعتك لوما وعتبا، وألزمتك ذنبا وما وضع ما فعلاه من شرفهما، بل رفع قدرهما، وبين عن جوهرهما، ولقد ظهرت لي مخيلة الفراسة بفعلهما، فليس يكبر الرجل وإن كان كبيرا عن ثلاث: عن تواضعه لسلطانه ووالده ومعلمه العلم وقد عوضتهما بما فعلاه عشرين ألف دينار، ولك عشرة آلاف درهم على حسن أدبك. (2) الفراء يتعهد مدرسة الكوفة بالنمو يحدثنا التاريخ بان أهل الكوفة امتازوا بالفقه والحديث والقراءة، ثم تعاطوا النحو بعد أن بات بينهم وبين البصريين شاو بعيد. ودراسة النحو في الكوفة انما تبدأ حقا بعد الكسائي فهو امام مدرسة الكوفة. وفي رأي الدكتور المخزومي أنه نهج بالنحو منهجا جديدا تولاه الفراء من بعده بالرعاية، فهما الكسائي والفراء رئيسا المدرسة واليهما يعزى تأسيسها وتنظيم منهجها وبهما يبدأ تاريخها.
وإذا كان الكسائي قد وضع أسس هذه المدرسة الجديدة، وجمع لها مادة درسها، ورسم المنهج الذي يعتمد عليه انشاؤها، فان الفراء قد تكفل باتمام البناء وتعهد المدرسة بالنمو، وأعاد النظر فيما جاء به الكسائي، فاخذ منه ما يتفق مع طبيعة المدرسة وبنى منهجها على أساس علمي جديد. (3) تفلسف في النحو، فأساء إلى هذا الدرس من حيث أراد الاحسان ثم تابع الفراء مسيرته ناشطا دونما كلل أو ملل، وله في العربية قصب السبق في أغلب التعاليل والتخاريج النحوية الجديدة، فتارة نراه يحمل العربية على الألفاظ والمعاني فبرع واستحق التقدمة، وتارة يقلب المسألة على وجوهها المختلفة وله في كل وجه منها أكثر من تعليل وتفسير.
وآراؤه النحوية هذه، وتفسيراته لوجوه الاعراب فلسفية إن صح مثل هذا التعبير يطغى عليها الطابع الفلسفي، فمثلا حين يرى الخليل بن أحمد أن كلا اسم، يراها الفراء بين الأسماء والأفعال فيقول: فلا أحكم عليها بالاسم ولا بالفعل، فلا أقول أنها اسم، لأنها حشو في الكلام، ولا تنفرد كما ينفرد الاسم، وأشبهت الفعل لتغيرها في المكنى والظاهر، لاني أقول في الظاهر: رأيت كلا الزيدين، ومررت بكلا الزيدين، وكلمني كلا الزيدين، فلا تتغير، وأقول في المكنى: رأيتهما كليهما، ومررت بهما كليهما، وقام إلي كلاهما، فأشبهت الفعل، لأني أقول: قضى زيد ما عليه، فتظهر الألف مع الظاهر، ثم أقول قضيت الحق، فتصير الألف ياء مع المكنى.
إلي ولم يخالف الفراء الخليل، وحسب، وانما خالف أستاذه الكسائي في كثير من مذاهبه فرفع المعطوف على اسم ان أجازه فريق من النحاة في جميع الأمثلة أو بعضها، ومنهم كسائي الذي كان يجيز ذلك مطلقا.