قال أبو بريدة الوضاحي: أمر المأمون الفراء أن يؤلف ما يجمع به أصول النحو وما سمع من العرب، فامر أن تفرد له حجرة من حجر الدار ووكل بها جواري وخدما للقيام بما يحتاج إليه حتى لا يتعلق قلبه ولا تتشوف نفسه إلى شئ، حتى أنهم كانوا يؤذنونه بأوقات الصلاة. وصير له الوراقين فكان الوراقون يكتبون حتى صنف كتاب الحدود في مدة سنتين وأمر المأمون بكتبه في الخزائن. وبعد أن فرع من ذلك خرج إلى الناس وابتدأ كتاب المعاني وكان من وراقيه سلمة بن عاصم وأبو نصر بن الجهم.
قال أبو بريدة: فأردنا أن نعد الناس الذين اجتمعوا لاملاء كتاب المعاني فلم نضبط عددهم. ولما فرع من املائه خزنه الوراقون عن الناس ليتكسبوا به وقالوا: لا نخرجه لأحد إلا لمن أراد أن ننسخه له على أن يكون عن كل خمسة أوراق درهم. فشكا الناس إلى الفراء فدعا الوراقين وكلمهم في ذلك وقال: قاربوا الناس تنفعوا وتنتفعوا فأبوا عليه فقال:
سأريكم وقال للناس: أني أريد أن املي كتاب معان أتم شرحا وابسط قولا من الذي أمليت قبلا وجلس يملي، فاملى في الحمد مائة ورقة. فجاء الوراقون إليه وقالوا: نحن نبلغ الناس ما يحبون فنسخوا كل عشرة أوراق بدرهم.
وللفراء تصانيف كثيرة منها ما وعته الكتب وأشارت إلى أسمائها وهي: 1 كتاب اختلاف أهل الكوفة والبصرة والشام في المصاحف 2 كتاب معاني القرآن أربعة اجزاء ألفه لعمر بن بكير. 3 كتاب البهي ألفه للأمير عبد الله بن طاهر 4 كتاب المصادر في القرآن 5 كتاب اللغات 6 كتاب الوقف والابتداء 7 كتاب الجمع والتثنية في القرآن 8 كتاب آلة الكتاب 9 كتاب الفاخر 10 كتاب النوادر 11 كتاب فعل وافعل 12 كتاب المقصور والممدود 13 كتاب المذكر والمؤنث 14 كتاب يافع ويافعة 15 كتاب ملازم 16 كتاب الحدود ألفه بأمر المأمون 17 كتاب مشكل اللغة الكبير 18 كتاب المشكل الصغير 19 كتاب الواو وغير ذلك.
وبالإضافة إلى اخذه العلم من الكسائي فإنه روى عن قيس بن الربيع ومندل بن علي، كما أخذ عنه سلمة بن عاصم ومحمد بن الجهم النمري وغيرهما. وله روايات كثيرة عن يونس بن حبيب البصري.
وقال الفراء ان أستاذي يونس أنشدني هذا البيت وكرره علي:
رب حلم أضاعه عدم المال * وجهل غطى عليه النعيم وقال إسماعيل العبايجي:
وبالرغم مما بلغه الفراء من مكانة رفيعة بين النحاة، ومنزلة عظيمة بين أعلام اللغة، لم نجده يستأثر باهتمام الكتاب والمؤلفين. فالأقدمون تعرضوا له بما ليس فيه الكفاية وكأنهم على عجل حين يصل دور هذا الرجل، فلا يعرف عن مناظراته إلا النزر القليل، ولا عن حياته إلا النتف البسيطة التي لا يؤبه لها. والأحدثون لم يكن بمقدورهم أن يكونوا للفراء طابعا ينتقونه مما بين أيديهم من نصوص وأحداث، فكانوا أكثر تحفظا وتحرزا، اللهم إلا صاحب كتاب مدرسة الكوفة الذي استطاع أن يستشف طبيعة شخصية الفراء ويرسم لهذه الشخصية الصورة الناطقة التي تجلت له بعد دراسة مستفيضة لأساتيذه وتلاميذه ثم راح يكتب عنه بكل ما في الجرأة من معنى، وبكل ما في الجدة من مواصفات، فيقول:
ولا نعرف عن حياة الفراء الأولى كثيرا، لأنه لم يكن من ذوي الأسر التي يحسب الكتاب والمؤرخون لها حسابا، ويملئون الصفحات بكل تافه من ألوان حياته المترفة، فقد كان أبوه مولى لقبيلة عربية انتسب إليها كثير من الصحابة وغيرهم وهي قبيلة بني منقر، ونشأ كما ينشأ أولاد الفقراء، ينتهب حقه من الحياة انتهابا، ويفرض شخصيته على الزمن فرضا، ولم يفتح التاريخ على يحيى بن زياد إلا وهو شاب عرفه زملاؤه بنفاذ الذهن، ودقة الحس، وقدر له أستاذه أبو جعفر الرواسي مستقبلا علميا جليلا.
أساتيذه ومن أخذ عنهم يكاد يجمع النحاة الأقدمون والأحدثون، أن الفراء اعلم علماء الكوفة بالنحو بعد الكسائي، وقد أخذ علمه هذا عن الكسائي وهو عمدته ومن أساطين حضار بحثه، وأجل أصحابه، ثم أخذ عن اعراب وثق بهم، مثل أبي الجراح وأبي ثروان وأبى فقعس وغيرهم، كما أخذ نبذا عن يونس، وأهل الكوفة يدعون انه استكثر منه، وأهل البصرة يدفعون عنه هذا الادعاء. ومهما تكثرت الادعاءات، فمن الثابت ان الفراء كان شديد التعلق بأستاذه الكسائي، مأخوذا به، معجبا بأدائه، ملازما له، لا يفارقه في سفر ولا حضر، وكان إذا سافر فهو عديله يحادثه ويسامره، وإذا أقام فهو جليسه يذاكره العلم ويدارسه.
يقول ابن أبي سعد: حدثني ابن طهمان قال سمعت والله الفراء يحيى يقول: مدحني رجل من النحويين فقال: ما اختلافك إلى الكسائي وأنت مثله في النحو؟ فأعجبتني نفسي فاتيته فناظرته مناظرة الأكفاء، فكأني كنت طائرا يغرف من البحر بمنقاره. (2) وبعد أن خرج الفراء من تحت كساء أستاذه... خرج وهو على تيه وزهو واعتداد بالنفس، بعد أن نال من كل علم طرفا، فراح يخوض غمار المناظرات مع أعلام اللغة دونما تهيب أو وجل ليخرج منها خروج الظافر المنتصر.
يقول الخطيب في تاريخ بغداد: كان محمد بن الحسن الفقيه ابن خالة الفراء، وكان الفراء يوما جالسا عنده، فقال الفراء: قل رجل أمعن النظر في باب من العلم فأراد غيره الا سهل عليه، فقال له محمد: يا أبا زكريا قد أمعنت النظر في العربية فأسألك عن باب في الفقه؟ فقال: هات على بركة الله تعالى، قال: ما تقول في رجل صلى فسها فسجد سجدتين للسهو فسها فيهما، ففكر الفراء ساعة ثم قال: لا شئ عليه، فقال له محمد:
ولم؟ قال: لأن التصغير عندنا لا تصغير له، وإنما السجدتان تمام الصلاة، فليس للتمام تمام، فقال محمد: ما ظننت آدميا يلد مثلك.
اتصاله بالمأمون لم يعد الخلفاء والأمراء والملوك في غنى عن الاتصال بمثل هذه العينات البشرية النادرة، فقد كانت مجالسهم تحفل بالأديب والفقيه واللغوي والقاضي والمؤنس والنديم، وغالبا ما كان الخلفاء يعهدون إلى هؤلاء مهمة