فصل: في بيان محل النسخ قد بينا أن جواز النسخ مختص بما يجوز أن يكون مشروعا ويجوز أن لا يكون مشروعا وهو مما يحتمل التوقيت نصا مع كونه مشروعا، لأنه بيان مدة بقاء الحكم وبعد انتهاء المدة لا يبقى مشروعا فلا بد من أن يكون فيه احتمال الوصفين.
وبهذا البيان يظهر أنه إذا كان موقتا فلا بد من أن يكون محتملا للتوقيت نصا، وفي هذا بيان أنه ليس في أصل التوحيد احتمال النسخ بوجه من الوجوه، لان الله تعالى بأسمائه وصفاته لم يزل كان ولا يزال يكون، ومن صفاته أنه صادق حكيم عالم بحقائق الأمور فلا احتمال للنسخ في هذا بوجه من الوجوه، ألا ترى أن الامر بالايمان بالله وكتبه ورسله لا يحتمل التوقيت بالنص، وأنه لا يجوز أن يكون غير مشروع بحال من الأحوال. وعلى هذا قال جمهور العلماء لا نسخ في الاخبار أيضا، يعنون في معاني الأخبار واعتقاد كون المخبر به على ما أخبر به الصادق الحكيم، بخلاف ما يقوله بعض أهل الزيغ من احتمال النسخ في الاخبار التي تكون في المستقبل، لظاهر قوله تعالى: * (يمحو الله ما يشاء ويثبت) * ولكنا نقول: الاخبار ثلاثة:
خبر عن وجود ما هو ماض وذلك ليس فيه احتمال التوقيت ولا احتمال أن لا يكون موجودا، وخبر عما هو موجود في الحال وليس فيه هذا الاحتمال أيضا، وخبر عما هو كائن في المستقبل نحو الاخبار بقيام الساعة وليس فيه احتمال ما بينا من التردد، فتجويز النسخ في شئ من ذلك يكون قولا بتجويز الكذب والغلط على المخبر به، ألا ترى أنه لا يستقيم أن يقال اعتقدوا الصدق في هذا الخبر إلى وقت كذا ثم اعتقدوا فيه الكذب بعد ذلك. والقول بجواز النسخ في معاني الأخبار يؤدي إلى هذا لا محالة، وهو البداء والجهل الذي تدعيه اليهود في أصل النسخ. فأما قوله تعالى: * (يمحو الله ما يشاء ويثبت) * فقد فسره الحسن رضي الله عنه بالاحياء والإماتة. وفسره زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: * (يمحو الله ما يشاء) * مما أنزله من الوحي * (ويثبت) * بإنزال الوحي فيه. فعلى هذا يتبين أن المراد ما يجوز أن يكون مؤقتا أو أن المراد التلاوة، ونحن نجوز ذلك في الاخبار أيضا بأن تترك التلاوة فيه حتى يندرس وينعدم حفظه من قلوب العباد كما في الكتب المتقدمة، وإنما