دليل على قبح فعله في ذلك الوقت بعينه، يوضحه أن النسخ بيان مدة بقاء الحكم على وجه يجوز أن يكون مقرونا بالامر، ولهذا جاز النسخ في الأمر والنهي دون الخبر، والنسخ قبل التمكن لا يصح مقرونا بالامر، فإنه لا يستقيم أن يقول افعل كذا إلى أن لا يكون متمكنا منه ثم لا يفعله بعد ذلك، فعرفنا أن النسخ قبل التمكن لا يجوز.
وحجتنا في ذلك الحديث المشهور إن الله تعالى فرض على عباده خمسين صلاة في ليلة المعراج، ثم انتسخ ما زاد على الخمس لسؤال رسول الله (ص) فكان ذلك نسخا قبل التمكن من الفعل إلا أنه كان بعد عقد القلب عليه، فرسول الله (ص) هو الأصل لهذه الأمة ولا شك أنه عقد قلبه على ذلك، ولا معنى لقولهم إن الله تعالى ما فرض ذلك عزما وإنما جعل ذلك إلى رأي رسوله ومشيئته، لان في الحديث أن رسول الله عليه السلام سأل التخفيف عن أمته غير مرة وما زال يسأل ذلك ويجيبه ربه إليه حتى انتهى إلى الخمس، فقيل له: لو سألت التخفيف أيضا فقال: أنا أستحي من ربي وفي هذا بيان أنه لم يكن ذلك مفوضا إلى اختياره بل كان نسخا على وجه التخفيف بسؤاله بعد الفرضية. ومنهم من استدل بقوله: * (فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) * إلى قوله * (فإذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم) * فإن هذا نسخ الامر قبل الفعل، ولكنهم يقولون كان هذا النسخ بعد التمكن من الفعل وإن كان قبل مباشرة الفعل ولا خلاف في جواز ذلك، والأصح هو الأول، ولان النسخ جائز بعد وجود جزء مما تناوله الامر بالفعل، فإن قول القائل افعلوا كذا في مستقبل أعماركم يجوز نسخه بالنهي عنه بعد مضي جزء من العمر، ولولا النسخ لكان أصل الكلام متناولا لجميع العمر، فبالنسخ يتبين أنه كان المراد الابتلاء بالعمل في ذلك الجزء خاصة ولا يتوهم فيه معنى البداء أو الجهل بعاقبة الامر، فكذلك النسخ بعد عقد القلب على الحكم، واعتقاد الحقية فيه قبل التمكن من العمل يكون بيانا أن المراد كان عقد القلب عليه إلى هذا الوقت واعتقاده الفرضية فيه دون مباشرة العمل، وإنما يكون مباشرة العمل مقصودا لمن ينتفع به، والله يتعالى عن ذلك، وإنما المقصود فيما يأمر الله به عباده الابتلاء، والابتلاء بعزيمة القلب