خلقوا من غير خالق وقيل إنهم خلقوا لا لشيء عبثا، وقيل إنهم خلقوا من غير أب وأم، ويحتمل أن يقال أم خلقوا من غير شيء، أي ألم يخلقوا من تراب أو من ماء، ودليله قوله تعالى: * (ألم نخلقكم من ماء مهين) * (المرسلات: 20) ويحتمل أن يقال الاستفهام الثاني ليس بمعنى النفي بل هو بمعنى الإثبات قال الله تعالى: * (أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) * (الواقعة: 59) و * (أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون) * (الواقعة: 64) * (أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون) * (الواقعة: 72) كل ذلك في الأول منفي وفي الثاني مثبت كذلك ههنا قال الله تعالى: * (أم خلقوا من غير شيء) * أي الصادق هو هذا الثاني حينئذ، وهذا كما في قوله تعالى: * (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) * (الإنسان: 8) فإن قيل كيف يكون ذلك الإثبات والآدمي خلق من تراب؟ نقول والتراب خلق من غير شيء، فالإنسان إذا نظرت إلى خلقه وأسندت النظر إلى ابتداء أمره وجدته خلق من غير شيء، أو نقول المراد أم خلقوا من غير شيء مذكور أو معتبر وهو الماء المهين.
المسألة الرابعة: ما الوجه في ذكر الأمور الثلاثة التي في الآية؟ نقول هي أمور مرتبة كل واحد منها يمنع القول بالوحدانية والحشر فاستفهم بها، وقال أما خلقوا أصلا، ولذلك ينكرون القول بالتوحيد لانتفاء الإيجاد وهو الخلق، وينكرون الحشر لانتفاء الخلق الأول أم خلقوا من غير شيء، أي أم يقولون بأنهم خلقوا لا لشيء فلا إعادة، كما قال: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا) * (المؤمنون: 115). وعلى قولنا إن المراد خلقوا لا من تراب ولا من ماء فله وجه ظاهر، وهو أن الخلق إذا لم يكن من شيء بل يكون إيداعيا يخفي كونه مخلوقا على بعض الأغبياء، ولهذا قال بعضهم السماء رفع اتفاقا ووجد من غير خالق وأما الإنسان الذي يكون أولا نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما وعظما لا يتمكن أحد من إنكاره بعد مشاهدة تغير أحواله فقال تعالى: * (أم خلقوا) * بحيث يخفى عليهم وجه خلقهم بأن خلقوا ابتداء من غير سبق حالة عليهم يكونون فيها ترابا ولا ماء ولا نطفة ليس كذلك بل هم كانوا شيئا من تلك الأشياء خلقوا منه خلقا، فما خلقوا من غير شيء حتى ينكروا الوحدانية ولهذا قال تعالى: * (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق) * (الزمر: 6) ولهذا أكثر الله من قوله * (خلقنا الإنسان من نطفة) * (الإنسان: 2) وقوله * (ألم نخلقكم من ماء مهين) * يتناول الأمرين المذكورين في هذا الموضع لأن قوله * (ألم نخلقكم من ماء) * يحتمل أن يكون نفي المجموع بنفي الخلق فيكون كأنه قال: أخلقتم لا من ماء، وعلى قول من قال المراد منه أم خلقوا من غير شيء، أي من غير خالق ففيه ترتيب حسن أيضا وذلك لأن نفي الصانع، إما أن يكون بنفي كون العالم مخلوقا فلا يكون ممكنا، وإما أن يكون ممكنا لكن الممكن لا يكون محتاجا فيقع الممكن من غير مؤثر وكلاهما محال.
وأما قوله تعالى: * (أم هم الخالقون) * فمعناه أهم الخالقون للخلق فيعجز الخالق بكثرة العمل، فإن دأب الإنسان أنه يعيا بالخلق، فما قولهم أما خلقوا فلا يثبت لهم إله البتة، أم خلقوا وخفي عليهم وجه الخلق أم جعلوا الخالق مثلهم فنسبوا إليه العجز، ومثل قوله تعالى: * (أفعيينا بالخلق الأول) * (ق: 15) هذا بالنسبة إلى الحشر وأما بالنسبة إلى التوحيد فهو رد عليهم حيث قالوا الأمور مختلفة واختلاف الآثار يدل على اختلاف المؤثرات وقالوا * (أجعل الآلهة إلها واحدا) * (ص: 5) فقال تعالى: * (أم هم الخالقون) * حيث لا يقدر