القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله) * (الحشر: 21) فإن الجبل ليس فيه ضعف يكون الخوف من ضعفه وإنما الله عظيم يخشاه كل قوي * (هم من خشية ربهم مشفقون) * (المؤمنون: 57) مع أن الملائكة أقوياء وقال تعالى: * (وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) * (الأحزاب: 33) أي تخافهم إعظاما لهم إذ لا ضعف فيك بالنسبة إليهم، وقال تعالى: * (لا تخف ولا تحزن) * (العنكبوت: 33) أي لا تخف ضعفا فإنهم لا عظمة لهم وقال: * (يخافون يوما) * (الإنسان: 7) حيث كان عظمة اليوم بالنسبة إلى عظمة الله ضعيفة وقال: * (ألا تخافوا ولا تحزنوا) * (فصلت: 30) أي بسبب مروه يلحقكم من الآخرة فإن المكروهات كلها مدفوعة عنكم، وقال تعالى: * (خائفا يترقب) * (القصص: 21) وقال: * (إني أخاف أن يقتلون) * (القصص: 33) لوحدته وضعفه وقال هارون: * (إني خشيت) * (طه: 94) لعظمة موسى في عين هارون لا لضعف فيه وقال: * (فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا) * (الكهف: 80) حيث لم يكن لضعف فيه، وحاصل الكلام أنك إذا تأملت استعمال الخشية وجدتها مستعملة لخوف بسبب عظمة المخشي، وإذا نظرت إلى استعمال الخوف وجدته مستعملا لخشية من ضعف الخائف، وهذا في الأكثر وربما يتخلف المدعى عنه لكن الكثرة كافية. الثانية: قال الله تعالى ههنا: * (خشي الرحمن مع أن وصف الرحمة غالبا يقابل الخشية إشارة إلى مدح المتقي حيث لم تمنعه الرحمة من الخوف بسبب العظمة، وقال تعالى: * (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيه خاشعا متصدعا من خشية الله) * (الحشر: 21) إشارة إلى ذم الكافر حيث لم تحمله الألوهية التي تنبئ عنها لفظة الله وفيها العظمة على خوفه وقال: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * (فاطر: 28) لأن * (إنما) * للحصر فكان فيه إشارة إلى أن الجاهل لا يخشاه فذكر الله ليبين أن عدم خشيته مع قيام المقتضى وعدم المانع وهو الرحمة، وقد ذكرنا ذلك في سورة يس ونزيد ههنا شيئا آخر، وهو أن نقول لفظة: * (الرحمن) * إشارة إلى مقتضى لا إلى المانع، وذلك لأن الرحمن معناه واهب الوجود بالخلق، والرحيم واهب البقاء بالرزق وهو في الدنيا رحمان حيث أوجدنا بالرحمة، ورحيم حيث أبقى بالرزق، ولا يقال لغيره رحيم لأن البقاء بالرزق قد يظن أن مثل ذلك يأتي ممن يطعم المضطر، فيقال فلان هو الذي أبقى فلانا، وهو في الآخرة أيضا رحمان حيث يوجدنا، ورحيم حيث يرزقنا، وذكرنا ذلك في تفسير الفاتحة حيث قلنا قال: * (بسم الله الرحمن الرحيم) * إشارة إلى كونه رحمانا في الدنيا حيث خلقنا، رحيما في الدنيا حيث رزقنا رحمة ثم قال مرة أخرى بعد قوله: * (الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم) * أي هو رحمن مرة أخرى في الآخرة بخلقنا ثانيا، واستدللنا عليه بقوله بعد ذلك: * (مالك يوم الدين) * (الفاتحة: 4) أي يخلقنا ثانيا، ورحيم يرزقنا ويكون هو المالك في ذلك اليوم، إذا علمت هذا فمن يكون منه وجود الإنسان لا يكون خوفه خشية من غيره، فإن القائل يقول لغيره أخاف منك أن تقطع رزقي أو تبدل حياتي، فإذا كان الله تعالى رحمانا منه الوجود ينبغي أن يخشى، فإن من بيده الوجود بيده العدم، وقال صلى الله عليه وسلم: " خشية الله رأس كل حكمة " وذلك لأن الحكيم إذا تفكر في غير الله وجده محل التغير يجوز عليه العدم في كل طرفة عين، وربما يقدر الله عدمه قبل أن يتمكن من الإضرار، لأن غير الله إن
(١٧٨)