الوزير يعظم فلانا بل الملك يعظمه، ولا يحسن أن يقال البواب يعظم فلانا بل الملك يعظمه لكون البون بينهما بعيدا، إذ الإضراب للتدرج، فإذا ترك المتكلم المضرب عنه صريحا وأتى بحرف الإضراب استفيد منه أمران أحدهما: أنه يشير إلى أمر آخر قبله وثانيهما: أنه يجعل الثاني تفاوتا عظيما مثل ما يكون ومما لا يذكر، وههنا كذلك لأن الشك بعد قيام البرهان بعيد لكن القطع بخلافه في غاية ما يكون من البعد.
المبحث الثالث: أن مع الفعل يكون بمثابة ذكر المصدر، تقول أمرت بأن أقوم وأمرت بالقيام، وتقول ما كان جوابه إلا أن قال وما كان جوابه إلا قوله كذا وكذا، وإذا كان كذلك فلم ينزل عن الإتيان بالمصدر حيث جاز أن يقال أمرت أن أقوم من غير حرف الإلصاق، ولا يجوز أن يقال أمرت القيام بل لا بد من الباء، ولذلك قالوا أي عجبوا من مجيئه، نقول * (أن جاءهم) * وإن كان في المعنى قائما مقام المصدر لكنه في الصورة فعل وحرف، وحروف التعدية كلها حروف جارة والجار لا يدخل على الفعل، فكان الواجب أن لا يدخل فلا أقل من أن يجوز عدم الدخول، فجاز أن يقال * (عجبوا أن جاءهم) * ولا يجوز عجبوا مجيئهم لعدم المانع من إدخال الحروف عليه.
وقوله تعالى: * (منهم) * يصلح أن يكون مذكورا كالمقرر لتعجبهم، ويصلح أن يكون مذكورا لإبطال تعجبهم، أما التقرير فلأنهم كانوا يقولون * (أبشرا منا واحدا نتبعه) * (القمر: 24) و * (قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا) * (يس: 15) إشارة إلى أنه كيف يجوز اختصاصكم بهذه المنزلة الرفيعة مع اشتراكنا في الحقيقة واللوازم وأما الإبطال فلأنه إذا كان واحدا منهم ويرى بين أظهرهم، وظهر عليه ما عجز عنه كلهم ومن بعدهم كان يجب عليهم أن يقولوا هذا ليس من عنده ولا من عند أحد من جنسنا، فهو من عند الله بخلاف ما لو جاءهم واحد من خلاف جنسهم وأتى بما يعجزون عنه، فإنهم كانوا يقولون نحن لا نقدر لأن لكل نوع خاصية، فإن خاصية النعامة بلع النار، والطيور الطير في الهواء، وابن آدم لا يقدر عليه فإن قيل الإبطال جائز لأن قولهم كان باطلا، ولكن تقرير الباطل كيف يجوز، نقول المبين لبطلان الكلام يجب أن يورده على أبلغ ما يمكن ويذكر فيه كل ما يتوهم أنه دليل عليه ثم يبطله، فلذلك قال عجبتم بسبب أنه منكم، وهو في الحقيقة سبب لهذا التعجب، فإن قيل النبي صلى الله عليه وسلم كان بشيرا ونذيرا والله تعالى في جميع المواضع قدم كونه بشيرا على كونه نذيرا، فلم لم يذكر: عجبوا أن جاءهم بشير منهم؟ نقول هو لما لم يتعين للبشارة موضعا كان في حقهم منذرا لا غير.
ثم قال تعالى: * (فقال الكافرون هذا شيء عجيب) *.
قال الزمخشري هذا تعجب آخر من أمر آخر وهو الحشر الذي أشار إليه بقوله * (أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد) * (ق: 3) فعجبوا من كونه منذرا من وقوع الحشر، ويدل عليه النظر في أول