فلا يكون فيها فساد لأن كل فاسد باطل وإذا لم يكن فيها فساد لا تكون آلهة وإلا لكان فيها فساد كما قال تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) وقوله: * (وأجل مسمى) * يذكر بالأصل الآخر الذي أنكروه.
ثم قال تعالى: * (وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون) * يعني لا يعلمون أنه لا بد بعد هذه الحياة من لقاء وبقاء إما في إسعاد أو شقاء، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قدم ههنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق، وفي قوله تعالى: * (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) * (فصلت: 53) قدم دلائل الآفاق، وذلك لأن المفيد إذا أفاد فائدة يذكرها على وجه جيد يختاره فإن فهمه السامع المستفيد فذلك وإلا يذكرها على وجه أبين منه وينزل درجة فدرجة، وأما المستفيد فإنه يفهم أولا الأبين، ثم يرتقي إلى فهم ذلك الأخفى الذي لم يكن فهمه فيفهمه بعد فهم الأبين المذكور آخرا، فالمذكور من المفيد آخرا مفهوم عند السامع أولا، إذا علم هذا فنقول ههنا الفعل كان منسوبا إلى السامع حيث قال: * (أولم يتفكروا في أنفسهم) * يعني فيما فهموه أولا ولم يرتقوا إلى ما فهموه ثانيا، وأما في قوله: * (سنريهم) * الأمر منسوب إلى المفيد المسمع فذكر أولا: الآفاق فإن لم يفهموه فالأنفس لأن دلائل الأنفس لا ذهول للإنسان عنها، وهذا الترتيب مراعى في قوله تعالى: * (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) * (آل عمران: 191) أي يعلمون الله بدلائل الأنفس في سائر الأحوال * (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) * بدلائل الآفاق.
المسألة الثانية: وجه دلالة الخلق بالحق على الوحدانية ظاهر، وأما وجه دلالته على الحشر فكيف هو؟ فنقول وقوع تخريب السماوات وعدمها لا يعلم بالعقل إلا إمكانه، وأما وقوعه فلا يعلم إلا بالسمع، لأن الله قادر على إبقاء الحادث أبدا كما أنه يبقى الجنة والنار بعد إحداثهما أبدا، والخلق دليل إمكان العدم، لأن المخلوق لم يجب له القدم فجاز عليه العدم، فإذا أخبر الصادق عن أمر له إمكان وجب على العاقل التصديق والإذعان، ولأن العالم لما كان خلقه بالحق فينبغي أن يكون بعد هذه الحياة حياة أخرى باقية لأن هذه الحياة ليست إلا لعبا ولهوا كما بين بقوله تعالى: * (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب) * (العنكبوت: 64) وخلق السماوات والأرض للهو واللعب عبث، والعبث ليس بحق وخلق السماوات والأرض بالحق فلا بد من حياة بعد هذه.
المسألة الثالثة: قال ههنا: * (كثيرا من الناس) * وقال من قبل: * (ولكن أكثر الناس) * وذلك لأنه من قيل لم يذكر دليلا على الأصلين، وههنا قد ذكر الدلائل الواضحة والبراهين اللائحة ولا شك في أن الإيمان بعد الدليل أكثر من الإيمان قبل الدليل، فبعد الدلائل لا بد من أن يؤمن من ذلك الأكثر جمع فلا يبقى الأكثر كما هو، فقال بعد إقامة الدليل * (وإن كثيرا) * وقبله * (ولكن أكثرهم) * ثم بعد الدليل الذي لا يمكن الذهول عنه، والدليل الذي لا يقع الذهول عنه وإن أمكن هو السماوات والأرض لأن من البعيد أن يذهل الإنسان عن السماء التي فوقه والأرض التي تحته، ذكر ما يقع الذهول عنه وهو أمر أمثالهم وحكاية أشكالهم.