اعلم أنه تعالى لما ذكر من أول هذه السورة إلى هذا الموضع أنواعا كثيرة من التكاليف والأحكام الشرعية، قطع ههنا ببيان الأحكام الشرعية، وذكر أحوال أعداء الدين وأقاصيص المتقدمين، لأن البقاء في النوع الواحد من العلم مما يكل الطبع ويكدر الخاطر، فأما الانتقال من نوع من العلوم إلى نوع آخر، فإنه ينشط الخاطر ويقوى القريحة، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (ألم تر) * معناه: ألم ينته علمك إلى هؤلاء، وقد ذكرنا ما فيه عند قوله: * (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم) * (البقرة: 258) وحاصل الكلام أن العلم اليقيني يشبه الرؤية، فيجوز جعل الرؤية استعارة عن مثل هذا العلم.
المسألة الثانية: الذين أوتوا نصيبا من الكتاب: هم اليهود، ويدل عليه وجوه: الأول: أن قوله بعد هذه الآية: * (من الذين هادوا) * (النساء: 46، المائدة: 41) متعلق بهذه الآية. الثاني: روى ابن عباس ان هذه الآية نزلت في حبرين من أحبار اليهود، كانا يأتيان رأس المنافقان عبد الله بن أبي ورهطه فيثبطونهم عن الاسلام. الثالث: ان عداوة اليهود كانت أكثر من عداوة النصارى بنص القرآن، فكانت إحالة هذا المعنى على اليهود أولى.
المسألة الثالثة: لم يقل تعالى: انهم أوتوا علم الكتاب، بل قال: * (أوتوا نصيبا من الكتاب) * لأنهم عرفوا من التوراة نبوة موسى عليه السلام، ولم يعرفوا منها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فأما الذين أسلموا كعبد الله بن سلام وعرفوا الأمرين، فوصفهم الله بأن معهم علم الكتاب، فقال: * (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) * (الرعد: 43) والله أعلم.
المسألة الرابعة: اعلم أنه تعالى وصفهم بأمرين: الضلال والاضلال، أما الضلال فهو قوله: * (يشترون الضلالة) * وفيه وجوه: الأول: قال الزجاج: يؤثرون تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام ليأخذوا الرشا على ذلك ويحصل لهم الرياسة، وإنما ذكر ذلك بلفظ الاشتراء لأن من اشترى شيئا آثره. الثاني: ان في الآية إضمارا، وتأويله: يشترون الضلالة بالهدى كقوله: * (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) * (البقرة: 16) أي يستبدلون الضلالة بالهدى، ولا إضمار على قول الزجاج. الثالث: المراد بهذه الآية عوام اليهود، فإنهم كانوا يعطون أحبارهم بعض أموالهم ويطلبون منهم أن ينصروا اليهودية ويتعصبوا لها، فكانوا جارين مجرى من يشتري بماله الشبهة والضلالة، ولا إضمار على هذا التأويل أيضا، ولكن الأولى أن تكون الآية نازلة في علمائهم، ثم لما وصفهم تعالى بالضلال وصفهم بعد ذلك بالاضلال فقال: * (ويريدون أن تضلوا السبيل) * يعني أنهم يتوصلون إلى إضلال المؤمنين والتلبيس عليهم؛ لكي يخرجوا عن الاسلام.