أن يكون مقدما على شرح حال القوة العملية. الثاني: أن السبب لحصول البخل والحسد هو الجهل، والسبب مقدم على المسبب، لا جرم قدم تعالى ذكر الجهل على ذكر البخل والحسد. وإنما قلنا: إن الجهل سبب البخل والحسد: أما البخل فلأن بذل المال سبب لطهارة النفس ولحصول السعادة في الآخرة، وحبس المال سبب لحصول مال الدنيا في يده، فالبخل يدعوك إلى الدنيا ويمنعك عن الآخرة، والجود يدعوك إلى الآخرة ويمنعك عن الدنيا، ولا شك أن ترجيح الدنيا على الآخرة لا يكون إلا من محض الجهل. وأما الحسد فلأن الإلهية عبارة عن إيصال النعم والاحسان إلى العبيد، فمن كره ذلك فكأنه أراد عزل الاله عن الإلهية، وذلك محض الجهل. فثبت أن السبب الأصلي للبخل والحسد هو الجهل، فلما ذكر تعالى الجهل أردفه بذكر البخل والحسد ليكون المسبب مذكورا عقيب السبب، فهذا هو الإشارة إلى نظم هذه الآية، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: " أم " ههنا فيه وجوه: الأول: قال بعضهم: الميم صلة، وتقديره: ألهم لأن حرف " أم " إذا لم يسبقه استفهام كان الميم فيه صلة. الثاني: أن " أم " ههنا متصلة، وقد سبق ههنا استفهام على سبيل المعنى، وذلك لأنه تعالى لما حكى عن هؤلاء الملعونين قولهم للمشركين: انهم أهدى سبيلا من المؤمنين، عطف عليه بقوله: * (أم لهم نصيب) * فكأنه تعالى قال: أمن ذلك يتعجب، أم من قولهم: لهم نصيب من الملك، مع أنه لو كان لهم ملك لبخلوا بأقل القليل. الثالث: أن " أم " ههنا منقطعة وغير متصلة بما قبلها البتة، كأنه لما تم الكلام الأول قال: بل لهم نصيب من الملك، وهذا الاستفهام استفهام بمعنى الانكار، يعني ليس لهم شيء من الملك البتة، وهذا الوجه أصح الوجوه.
المسألة الثانية: ذكروا في هذا الملك وجوها: الأول اليهود كانوا يقولون نحن أولى بالملك والنبوة فكيف نتبع العرب؟ فأبطل الله عليهم قولهم في هذه الآية. الثاني: أن اليهود كانوا يزعمون أن الملك يعود إليهم في آخر الزمان، وذلك أنه يخرج من اليهود من يجدد ملكهم ودولتهم ويدعو إلى دينهم، فكذبهم الله في هذه الآية. الثالث: المراد بالملك ههنا التمليك، يعني أنهم إنما يقدرون على دفع نبوتك لو كان التمليك إليهم، ولو كان التمليك إليهم لبخلوا بالنقير والقطمير، فكيف يقدرون على النفي والاثبات. قال أبو بكر الأصم: كانوا أصحاب بساتين وأموال، وكانوا في عزة ومنعة ثم كانوا يبخلون على الفقراء بأقل القليل، فنزلت هذه الآية.
المسألة الثالثة: أنه تعالى جعل بخلهم كالمانع من حصول الملك لهم، وهذا يدل على أن الملك والبخل لا يجتمعان، وتحقيق الكلام فيه من حيث العقل أن الانقياد للغير أمر مكروه لذاته، والانسان لا يتحمل المكروه إلا إذا وجد في مقابلته أمرا مطلوبا مرغوبا فيه، وجهات الحاجات