على القول الأول وهو حمله على ظاهره فالجواب عنه من وجوه: الأول: أنه تعالى ما جعل الوعيد هو الطمس بعينه، بل جعل الوعيد إما الطمس أو اللعن فإنه قال: * (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت) * وقد فعل أحدهما وهو اللعن وهو قوله: * (أو نلعنهم) * وظاهره ليس هو المسخ. الثاني: قوله تعالى: * (آمنوا) * تكليف متوجه عليهم في جميع مدة حياتهم، فلزم أن يكون قوله: * (من قبل أن نطمس وجوها) * واقعا في الآخرة، فصار التقدير: آمنوا من قبل أن يجئ وقت نطمس فيه وجوهكم وهو ما بعد الموت. الثالث: أنا قد بينا أن قوله: * (يا أيها الذين أوتوا الكتاب) * خطاب مع جميع علمائهم، فكان التهديد بهذا الطمس مشروطا بأن لا يأتي أحد منهم بالايمان، وهذا الشرط لم يوجد لأنه آمن عبد الله بن سلام وجمع كثير من أصحابه، ففات المشروط بفوات الشرط، ويقال: لما نزلت هذه الآية أتى عبد الله بن سلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله فأسلم، وقال: يا رسول الله كنت أرى أن لا أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي. الرابع: أنه تعالى لم يقل: من قبل أن نطمس وجوهكم، بل قال: * (من قبل أن نطمس وجوها) * وعندنا أنه لا بد من طمس في اليهود أو مسخ قبل قيام الساعة، ومما يدل على أن المراد ليس طمس وجوههم بأعيانهم، بل طمس وجوه غيرهم من أبناء جنسهم قوله: * (أو نلعنهم) * فذكرهم على سبيل المغايبة، ولو كان المراد أولئك المخاطبين لذكرهم على سبيل الخطاب، وحمل الآية على طريقة الالتفات وإن كان جائزا إلا أن الأظهر ما ذكرناه.
ثم قال تعالى: * (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت) * قال مقاتل وغيره: نمسخهم قردة كما فعلنا ذلك بأوائلهم. وقال أكثر المحققين: الأظهر حمل الآية على اللعن المتعارف، ألا ترى إلى قوله تعالى: * (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير) * ففصل تعالى ههنا بين اللعن وبين مسخهم قردة وخنازير، وههنا سؤالات:
السؤال الأول: إلى من يرجع الضمير في قوله: * (أو نلعنهم) *.
الجواب: إلى الوجوه إن أريد الوجهاء أو لأصحاب الوجوه، لأن المعنى من قبل أن نطمس وجوه قوم، أو يرجع إلى الذين أوتوا على طريقة الالتفات.
السؤال الثاني: قد كان اللعن والطمس حاصلين قبل الوعيد على الفعل فلا بد وأن يتحدا.
والجواب: أن لعنه تعالى لهم من بعد هذا الوعيد يكون أزيد تأثيرا في الخزي فيصح ذلك فيه.
السؤال الثالث: قوله تعالى: * (يا أيها الذين أوتوا الكتاب) * خطاب مشافهة، وقوله: * (أو نلعنهم) * خطاب مغايبة، فكيف يليق أحدهما بالآخر؟