مفلسا، فيكون مؤاخذا به، وهذا حكم المعسر بدين الآدمي، لأنا لا نعلم توبته من تفريطه، فواجب أن يكون مطالبا فيه في الدنيا كما كان مؤاخذا به عند الله تعالى.
فإن قيل: فينبغي أن تفرقوا بين المفرط في قضاء دينه المصر على تفريطه وبين من لم يفرط أصلا أو فرط ثم تاب من تفريطه فتوجبون له لزوم من فرط ولم يتب ولا تجعلون له ذلك فيمن لم يفرط أو فرط ثم تاب. قيل له: لو وقفنا على حقيقة توبته من تفريطه أو علمنا أنه لم يكن مفرطا في قضائه لخالفنا بين حكمه وحكم من ظهر تفريطه في باب اللزوم كما اختلف حكمهما عند الله تعالى، ولكنا لا نعلم أنه غير مفرط في الحقيقة لجواز أن يكون له مال مخبوء وقد أظهر الإعسار، وكذلك المظهر لتوبته من تفريطه مع ظهور عسرته جائز أن يكون موسرا بأداء دينه ولا تكون لما أظهره حقيقة، وإذا كان كذلك فحكم اللزوم والمطالبة قائم عليه كما تثبت عليه المطالبة لله تعالى بعد موته.
وحديث أبي قتادة أيضا يدل على ذلك، وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني قال: حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي على رجل مات وعليه دين، فأتي بميت فقال: (أعليه دين؟) فقالوا: نعم، ديناران، فقال: (صلوا على صاحبكم!) فقال أبو قتادة الأنصاري: هما علي يا رسول الله! قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما فتح الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك دينا فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته) فلو لم تكن المطالبة قائمة عليه إذا مات مفلسا كان لا يترك الصلاة عليه إذا مات مفلسا، لأنه كان يكون بمنزلة من لا دين عليه. وفي هذا دليل على أن الإعسار لا يسقط عنه اللزوم والمطالبة. وقد روى إسماعيل بن إبراهيم بن لمهاجر عن عبد الملك بن عمير قال: كان علي بن أبي طالب إذا أتاه رجل بغريمه قال:
هات بينة على مال أحبسه! فإن قال: فإني إذا ألزمه، قال وما منعك من لزومه. وأما قول الزهري والليث بن سعد في إجازتهما الحد واستيفاء الدين من أجرته، فخلاف الآية والآثار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الآية فقوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) ولم يقل فليؤاجر بما عليه، وسائر الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس في شئ منها إجارته وإنما فيها أو تركه، وحديث أبي سعيد الخدري (ليس لكم إلا ذلك) حين لم يجدوا له غير ما أخذوا.
قوله عز وجل (وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون) يعني والله أعلم: أن التصدق بالدين الذي على المعسر خير من إنظاره به، وهذا يدل على أن الصدقة أفضل من القرض، لأن القرض إنما هو دفع المال وتأخير استرجاعه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم