لم يكن مقبوضا عقود من عقود الربا بمكة قبل الفتح، ولم يتعقبها بالفسخ ولم يميز ما كان منها قبل نزول الآية مما كان منها بعد نزولها، فدل ذلك على أن العقود الواقعة في دار الحرب بينهم وبين المسلمين إذا ظهر عليها الإمام لا يفسخ منها ما كان مقبوضا، وقوله تعالى: (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف) يدل على ذلك أيضا، لأنه قد جعل له ما كان مقبوضا منه قبل الاسلام. وقد قيل إن معنى قوله تعالى: (فله ما سلف): من ذنوبه، على معنى أن الله يغفرها له. وليس هذا كذلك، لأن الله تعالى قد قال: (وأمره إلى الله) يعني فيما يستحقه من عقاب أو ثواب، فلم يعلمنا حكمه في الآخرة. ومن جهة أخرى أنه لو كان هذا مرادا لم ينتف به ما ذكرنا، فيكون على الأمرين جميعا لاحتماله لهما، فيغفر الله ذنوبه ويكون له المقبوض من ذلك قبل إسلامه، وذلك يدل على أن بياعات أهل الحرب كلها ماضية إذا أسلموا بعد التقابض فيها لقوله تعالى:
(فله ما سلف وأمره إلى الله).
قوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله) قال أبو بكر: يحتمل ذلك معنيين، أحدهما: إن لم تقبلوا أمر الله تعالى ولم تنقادوا له، والثاني: إن لم تذروا ما بقي من الربا بعد نزول الأمر بتركه فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن اعتقدوا تحريمه. وقد روي عن ابن عباس وقتادة والربيع بن أنس فيمن أربى (إن الإمام يستتيبه: فإن تاب وإلا قتله) وهذا محمول على أن يفعله مستحلا له، لأنه لا خلاف بنين أهل العلم أنه ليس بكافر إذا اعتقد تحريمه. وقوله تعالى: (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) لا يوجب إكفارهم، لأن ذلك قد يطلق على ما دون الكفر من المعاصي، قال زيد بن أسلم عن أبيه: إن عمر رأى معاذا يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اليسير من الرياء شرك ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة). فأطلق اسم المحاربة عليه وإن لم يكفر. وروى أسباط عن السدي عن صبيح مولى أم سلمة عن زيد بن أرقم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم: (أنا حرب لمن حاربتم سلم لمن سالمتم) وقال تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا) [المائدة: 33] والفقهاء متفقون على أن ذلك حكم جار في أهل الملة وأن هذه السمة تلحقهم بإظهارهم قطع الطريق وقد دل على أنه جائز إطلاق اسم المحاربة لله ورسوله على من عظمت معصيته وفعلها مجاهرا بها وإن كانت دون الكفر. وقوله تعالى:
(فأذنوا بحرب من الله ورسوله) أخبار منه بعظم معصية وأنه يستحق بها المحاربة عليها وإن لم يكن كافرا وكان ممتنعا على الإمام، فإن لم يكن ممتنعا عاقبه الإمام بمقدار ما