بالكتابة والإشهاد والرهن المذكور جميعه في هذه الآية ندب وإرشاد إلى ما لنا فيه الحظ والصلاح والاحتياط للدين والدنيا، وإن شيئا منه غير واجب. وقد نقلت الأمة خلف عن سلف عقود المداينات والأشرية والبياعات في أمصارهم من غير إشهاد، مع علم فقهائهم بذلك من غير نكير منهم عليهم، ولو كان الإشهاد واجبا لما تركوا النكير على تاركه مع علمهم به. وفي ذلك دليل على أنهم رأوه ندبا، وذلك منقول من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. ولو كانت الصحابة والتابعون تشهد على بياعاتها وأشريتها لورد النقل به متواترا مستفيضا ولأنكرت هو على فاعله ترك الإشهاد، فلما لم ينقل عنهم الإشهاد بالنقل المستفيض ولا إظهار النكير على تاركه من العامة ثبت بذلك أن الكتاب والإشهاد في الديون والبياعات غير واجبين، وقوله تعالى: (فاكتبوه) مخاطبة لمن جرى ذكره في أول الآية وهو: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين) فإنما أمر بذلك للمتداينين.
فإن قيل: ما وجه قوله تعالى: (بدين) والتداين لا يكون إلا بدين؟ قيل له: لأن قوله تعالى: (تداينتم) لفظ مشترك يحتمل أن يكون من الدين الذي هو الجزاء كقوله تعالى (مالك يوم الدين) يعني يوم الجزاء فيكون بمعنى تجازيتم فأزال الاشتراك عن اللفظ بقوله تعالى: (بدين) وقصره على المعاملة بالدين، وجائز أن يكون على جهة التأكيد وتمكين المعنى في النفس.
وقوله تعالى: (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى) ينتظم سائر عقود المداينات التي يصح فيها الآجال، ولا دلالة فيه على جواز التأجيل في سائر الديون، لأن الآية ليس فيها بيان جواز التأجيل في سائر الديون وإنما فيها الأمر بالإشهاد إذا كان دينا مؤجلا، ثم يحتاج أن يعلم بدلالة أخرى جواز التأجيل في الدين وامتناعه، ألا ترى أنها لم تقتض جواز دخول الأجل على الدين بالدين حتى يكونا جميعا مؤجلين؟ وهو بمنزلة قوله: (من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم) لا دلالة فيه على جواز السلم في سائر المكيلات والموزونات بالآجال المعلومة، وإنما ينبغي أن يثبت جوازه في المكيل والموزون المعلوم الجنس والنوع والصفة بدلالة أخرى، وإذا ثبت أنه مما يجوز السلم فيه احتجنا بعد ذلك إلى أن نسلم فيه إلى أجل معلوم. وكما تدل الآية على جواز عقود المداينات ولم يصح الاستدلال بعمومهما في إجازة سائر عقود المداينات، لأن الآية إنما فيها الأمر بالإشهاد إذا صحت المداينة، كذلك لا تدل على جواز شرط الأجل في سائر الديون وإنما فيها الأمر بالإشهاد إذا صح الدين والتأجيل فيه.
وقد احتج بعضهم في جواز التأجيل في القرض بهذه الآية، إذ لا تفرق بين القرض وسائر عقود المداينات، وقد علمنا أن القرض مما شمله الاسم. وليس ذلك عندنا كما