أن من ألزم نفسه دينا بعقد عقده على نفسه أنه يلزمه أداؤه محكوم عليه بأنه موسر به وغير مصدق على الإعسار المسقط عنه المطالبة، كما لا يصدق على التأجيل بعد ثبوته عليه حالا. وإنما قال أصحابنا (إنه يحبسه في أول ما يرفعه إلى القاضي إذا طلب ذلك الطالب، ولا يسأل عنه) من قبل أنه توجهت عليه المطالبة بأدائه ومحكوم له باليسار في قضائه، فالواجب أن يستبرئ أمره بديا، إذ جائز أن يكون له مال قد خبأه لا يقف عليه غيره، فلا يوقف بذلك على إعساره، فينبغي له أن يحبسه استظهارا لما عسى أن يكون عنده، إذ كان في الأغلب أنه إن كان عنده شئ آخر أضجره الحبس وألجأه إلى اخراجه، فإذا حبسه هذه المدة فقد استظهر في الغالب فحينئذ يسأل عنه، لأنه جائز أن يكون هناك من يعلم يساره سرا فإذا ثبت عنده إعساره خلاه من الحبس. وقد روي عن شريح أنه كان يحبس المعسر في غير الربا من الديون، فقال له معسر قد حبسه: قال الله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) فقال شريح: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) [النساء: 58] والله لا يأمرنا بشئ ثم يعذبنا عليه. وقد قدمنا ذكر مذهب شريح في تأويل الآية، وإن قوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) مقصور على الربا دون غيره، وأن غيره من الديون لا يختلف في الحبس فيها الموسر والمعسر. ويشتبه أن يكون ذهب في ذلك إلى أنه لا سبيل لنا إلى معرفة الإعسار على الحقيقة، إذ جائز أن يظهر الإعسار وحقيقة أمره اليسار، فاقتصر بحكم الإنظار على رأس مال الربا الذي نزل به القرآن وحمل ما عداه على موجب عقد المداينة من لزوم القضاء وتوجه المطالبة عليه بالأداء. وقد بينا وجه فساد هذا القول بما قد دللنا عليه من مقتضى عموم اللفظ لسائر الديون. ومع ذلك فلو كان نص التنزيل واردا في الربا دون غيره لكان سائر الديون بمنزلته قياسا عليه، إذ لا فرق في حال اليسار بينهما في صحة لزوم المطالبة بهما ووجوب أدائهما، فوجب أن لا يختلفا في حال الأداء في سقوط الحبس فيها دونه. فأما قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) [النساء: 58] واحتجاج شريح به في حبس المطلوب، فإن الآية إنما هي في الأعيان الموجودة في يد لغيره فعليه أداؤه، وأما الديون المضمونة في ذمته فإنما المطالبة بها معلقة بإمكان أدائها، فمن كان معسرا فإن الله لم يكلفه إلا ما في إمكانه، قال الله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا) [الطلاق: 7] فإذا لم يكن مكلفا لأدائها لم يجز أن يحبس بها.
فإن قيل: إن الدين من الأمانات، لقوله تعالى: (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته) وإنما يريد به الدين المذكور في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا