يعني: بعد اللزوق، يقال: عسق به إذا لزق به، وأراد بالسر ههنا الغشيان، وعقد النكاح أو نفسه يسمى سرا كما يسمى به الوطء، ألا ترى أن الوطء والعقد كل واحد منهما يسمى نكاحا؟ ولذلك ساغ تأويل الآية على الوطء وعلى العقد وعلى التصريح بالخطبة لما بعد انقضاء العدة.
وأظهر الوجوه وأولاها بمراد الآية مع احتمالها لسائر ما ذكرنا، ما روي عن ابن عباس ومن تابعه: وهو التصريح بالخطبة وأخذ العهد عليها أن تحبس نفسه عليه ليتزوجها بعد انقضاء العدة، لأن التعريض المباح إنما هو في عقد يكون بعد انقضاء العدة، وكذلك التصريح واجب أن يكون حظره من هذا الوجه بعينه. ومن جهة أخرى أن ذلك معنى لم نستفده إلا بالآية، فهو لا محالة مراد بها. وأما حظر إيقاع العقد في العدة فمذكور باسمه في نسق التلاوة بقوله تعالى: (ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله) فإذا كان ذلك مذكورا في نسق الخطاب بصريح اللفظ دون التعريض وبالإفصاح دون الكناية، فإنه يبعد أن يكون مراده بالكناية المذكورة بقوله (سرا) هو والذي قد أفصح به في المخاطبة. وكذلك تأويل من تأوله على الزنا فيه بعد، لأن المواعدة بالزنا محظورة في العدة وغيرها، إذ كان تحريم الله الزنا تحريما مبهما مطلقا غير مقيد بشرط ولا مخصوص بوقت، فيؤدي ذلك إلى إبطال فائدة تخصيصه حظر المواعدة بالزنا بكونها في العدة. وليس يمتنع أن يكون الجميع مرادا لاحتمال اللفظ له بعد أن لا يخرج منه تأويل ابن عباس الذي ذكرناه.
وقوله تعالى: (علم الله أنكم ستذكرونهن) يعني إن الله علم أنكم ستذكرونهن بالتزويج لرغبتكم عبد فيهن ولخوفكم أن يسبقكم إليهن غيركم. وأباح لهم التوصل إلى المراد من ذلك بالتعريض دون الإفصاح، وهذا يدل على ما اعتبره أصحابنا في جواز التوصل إلى استباحة الأشياء من الوجوه المباحة وإن كانت محظورة من وجوه أخر ونحوه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه بلال بتمر جيد فقال: (أكل تمر خيبر هكذا؟) فقال: لا، إنما نأخذ الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تفعلوا ولكن بيعوا تمركم بعرض ثم اشتروا به هذا التمر) فأرشدهم إلى التوصل إلى أخذ التمر الجيد. ولهذا الباب موضع غير هذا سنذكره إن شاء الله.
وقوله تعالى: (علم الله أنكم ستذكرونهن) كقوله تعالى: (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) [البقرة: 187] وأباح لهم الأكل والجماع في ليالي رمضان، علمنا أنه لو لم يبح لهم لكان فيهم من يواقع المحظور عنه، فخفف عنهم رحمة منه بهم. وكذلك قوله تعالى: (علم الله أنكم ستذكرونهن) هو على هذا المعنى.