الحد بالتعريض أنه لما حظر عليه المخاطبة بعقد النكاح صريحا وأبيح له التعريض به، اختلف حكم التعريض والتصريح في ذلك، على أن التعريض بالقذف مخالف لحكم التصريح وغير جائز التسوية بينهما كما خالف الله بين حكمهما في خطبة النكاح، وذلك لأنه معلوم أن الحدود مما يسقط بالشبهة، فهي في حكم السقوط، والنفي آكد من النكاح، فإذا لم يكن التعريض في النكاح كالتصريح وهو آكد في باب الثبوت من الحد، كان الحد أولى أن لا يثبت بالتعريض من حيث دل على أنه لو خطبها بعد انقضاء العدة بالتعريض لم يقع بينهما عقد النكاح فكان تعريضه بالعقد مخالفا للتصريح، فالحد أولى أن لا يثبت بالتعريض. وكذلك لم يختلفوا أن الإقرار في العقود كلها لا يثبت بالتعريض ويثبت بالتصريح، لأن الله فرق بينهما في النكاح، فكان الحد أولى أن لا يثبت به.
وهذه الدلالة واضحة على الفرق بينهما في سائر ما يتعلق حكمه بالقول، وهي كافية مغنية في جهة الدلالة على ما وصفنا، وإن أرادنا رده إليه من جهة القياس لعلة تجمعهما كان سائغا، وذلك أن النكاح حكمه متعلق بالقول كالقذف، فلما اختلف حكم التصريح والتعريض بالخطبة بهذا المعنى ثبت حكمه بالتعريض، وإن كان حكمه ثابتا بالإفصاح والتصريح كما حكم الله به في النكاح.
وأما قوله (إن التعريض بالقذف ينبغي أن يكون بمنزلة التصريح لأنه قد عرف مراده كما عرف بالتصريح) فإني أظنه نسي عند هذا القول حكم الله تعالى في الفصل بين التعريض والتصريح بالخطبة، إذ كان المراد مفهوما مع الفرق بينهما، لأنه إن كان الحكم متعلقا بمفهوم المراد فلذلك بعينه موجود في الخطبة فينبغي أن يستوي حكمهما فيها، فإذا كان نص التنزيل قد فرق بينهما فقد انتقض هذا الإلزام وصح الاستدلال به على ما وصفنا. وأما قوله: (إن من أزال الحد عن المعرض بالقذف فإنما أزاله لأنه لم يعلم بتعريضه أنه أراد القذف لاحتمال كلامه لغيره) فإنها وكالة لم تثبت عن الخصم وقضاء على غائب بغير بينة، وذلك لأن أحدا لا يقول بأن حد القذف متعلق بإرادته، وإنما يتعلق عند خصومه بالإفصاح به دون غيره، فالذي يحيل به خصمه من أنه أزال الحد لأنه لم يعلم مراده، لا يقبلونه ولا يعتمدونه.
وأما إلزامه خصمه أن يبيح التعريض بالقذف كما يبيح التعريض بالنكاح، فإنه كلام رجل غير مثبت فيما يقوله ولا ناظر في عاقبة ما يؤول إليه حكم إلزامه له، فنقول: إن خصمه الذي احتج به لم يجعل ما ذكره علة للإباحة حتى يلزم عليه إباحة التعريض بالقذف، وإنما استدل بالآية على إيجاب الفرق بين التعريض والتصريح، فأما الحظر والإباحة موقوفان على دلالتهما من غير هذا الوجه.