وأما قوله (إنما حيز التعريض بالنكاح دون التصريح لأن النكاح لا يكون إلا منهما ويقتضي خطبته جوابا منها ولا يقتضي التعريض جوابا في الأغلب) فإنه كلام فارغ لا معنى تحته، وهو مع ذلك منتقض، وذلك التعريض بالنكاح والتصريح به لا يقتضي واحد منهما جوابا، لأن النهي إنما انصرف إلى خطبتها لوقت مستقبل بعد انقضاء العدة بقوله تعالى: (ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا) وذلك لا يقتضي الجواب كما لا يقتضي التعريض، ولم يجز الخطاب عن النهي عن العقد المقتضي للجواب حتى يفرق بينهما بما ذكر، فقد بان بذلك أنه لا فرق بين التعريض والتصريح في نفي اقتضاء الجواب، وهذا الموضع هو الذي فرقت الآية فيه بين الأمرين، فأما العقد المقتضي للجواب فإنما هو منهي عنه بقوله تعالى: (ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله) وإن كان نهيه عن العقد نفسه فقد اقتضاه نهيه عن الإفصاح بالخطبة من جهة الدلالة، كدلالة قوله تعالى: (ولا تقل لهما أف) [الإسراء: 23] على حظر الشتم والضرب.
وأما وجه انتقاضه، فإنه لا خلاف أن العقود المقتضية للجواب لا تصح بالتعريض، وكذلك الإقرارات لا تصح بالتعريض وإن لم تقتض جوابا من المقر له، فلم يختلف حكم ما يقتضي من ذلك جوابا ومالا يقتضيه، فعلمت أن اختلافهما من هذا الوجه لا يوجب الفرق بينهما.
وأما قوله تعالى: (ولكن لا تواعدوهن سرا) فإنه مختلف في المراد به، فقال ابن عباس وسعيد بن جبير والشعبي ومجاهد: (مواعدة السر أن يأخذ عليها عهدا أو ميثاقا أن تحبس نفسها عليه ولا تنكح زوجا غيره). وقال الحسن وإبراهيم وأبو مجلز ومحمد وجابر بن زيد: (لا تواعدوهن سرا): (الزنا). وقال زيد بن أسلم: (لا تواعدوهن سرا): (لا تنكح المرأة في عدتها ثم تقول سأسره ولا يعلم به، أو يدخل عليها فيقول لا يعلم بدخولي حتى تنقضي العدة).
قال أبو بكر: اللفظ محتمل لهذه المعاني كلها، لأن الزنا قد يسمى سرا، قال الحطيئة:
ويحرم سر جارتهم عليهم * ويأكل جارهم أنف القصاع وأراد بالسر الزنا، وصفهم بالعفة عن نساء جيرانهم. وقال رؤبة يصف حمار الوحش وأتانه لما كف عنها حين حملت:
قد أحصنت مثل دعاميص الرنق * أجنة في مستكنات الحلق فعف إلى عن أسرارها بعد العسق