فتبين له حينئذ موضع الدلالة على تثبيت النبوة، كما كان حكم من كان في عصره من لزوم الحجة به وقيام الدلالة عليه.
والوجه الآخر من الدلالة أنه معلوم عند المؤمنين بالنبي عليه السلام وعند الجاحدين لنبوته أنه كان من أتم الناس عقلا، وأكملهم خلقا، وأفضلهم رأيا، فما طعن عليه أحد في كمال عقله ووفور حلمه وصحة فهمه وجودة رأيه، وغير جائز على من كان هذا وصفه أن يدعي أنه نبي الله قد أرسله إلى خلقه كافة، ثم جعل علامة نبوته ودلالة صدقه كلاما يظهره ويقرعهم به، مع علمه بأن كل واحد منهم يقدر على مثله، فيظهر حينئذ كذبه وبطلان دعواه، فدل ذلك على أنه لم يتحداهم بذلك ولم يقرعهم بالعجز عنه إلا هو من عند الله لا يقدر العباد على مثله.
الثالث قوله تعالى في نسق التلاوة: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) فأخبر أنهم لا يعارضونه ولا يقع ذلك منهم، وذلك إخبار بالغيب ووجد مخبره على ما هو به. ولا تتعلق هذه بإعجاز النظم، بل هي قائمة بنفسها في تصحيح نبوته، لأنه إخبار بالغيب، كما لو قال لهم: (الدلالة على صحة قولي أنكم مع صحة أعضائكم وسلامة جوارحكم لا يقع من أحد منكم أن يمس رأسه وأن يقوم من موضعه) فلم يقع ذلك منهم، مع سلامة أعضائهم وجوارحهم، وتقريعهم به مع حرصهم على تكذيبه، كان ذلك دليلا على صحة نبوته، إذ كان مثل ذلك لا يصح إلا كونه من قبل القادر الحكيم الذي صرفهم عن ذلك في تلك الحال.
قال أبو بكر: وقد تحدى الله الخلق كلهم من الجن والإنس بالعجز عن الإتيان بمثل القرآن بقوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) [الإسراء: 88]. فلما ظهر عجزهم قال:
(فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) [الهود: 13] فلما عجزوا قال: (فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين) [الطور: 34]. فتحداهم بالإتيان بمثل أقصر سورة منه، فلما ظهر عجزهم عن ذلك وقامت عليهم الحجة وأعرضوا عن طريق المحاجة وصمموا على القتال والمغالبة، أمر الله نبيه بقتالهم. وقيل في قوله تعالى، (وادعوا شهداءكم من دون الله) أنه أراد به أصنامهم وما كانوا يعبدونهم من دون الله، لأنهم كانوا يزعمون أنها تشفع لهم عند الله وقيل إنه أراد جميع من يصدقكم ويوافقكم على قولكم، وأفاد بذلك عجز الجميع عنه في حال الاجتماع والانفراد، كقوله: (لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) [الإسراء: 88].
فقد انتظمت فاتحة الكتاب من ابتدائها إلى حيث انتهينا إليه من سورة البقرة الأمر