قال أبو بكر: وينبغي أن يكون رواية الأصل ورواية الإملاء في كراهيتهم الأكل عند الشك في الفجر محمولين على ما رواه الحسن بن زياد، لأنه فسر ما أجملوه في الروايتين الأخريين، ولأنها موافقة لظاهر الكتاب. وقد روي عن ابن عباس أنه بعث رجلين لينظرا له طلوع الفجر في الصوم فقال أحدهما: قد طلع، وقال الآخر: لم يطلع، فقال:
(اختلفتما) فأكل. وكذلك روي عن ابن عمر، وذلك في حال أمكن فيها الوصول إلى معرفة طلوع الفجر من طريق المشاهدة، وقال تعالى: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) فأباح الأكل إلى أن يتبين، والتبين إنما هو حصول العلم الحقيقي، ومعلوم أن ذلك إنما أمروا به في حال يمكنهم فيها الوصول إلى العلم الحقيقي بطلوعه، وأما إذا كانت ليلة مقمرة أو ليلة غيم أو في موضع لا يشاهد مطلع الفجر، فإنه مأمور بالاحتياط للصوم إذ لا سبيل له إلى العلم بحال الطلوع، فالواجب عليه الإمساك استبراء لدينه، لما حدثنا شعبة قال: حدثنا يزيد بن أبي مريم السلولي قال: سمعت أبا الجوزاء السعدي قال: قلت للحسن بن علي: ما تذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان يقول: (دع ما يريبك إلى مالا يريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة). وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن يونس قال: حدثنا أبو شهاب:
حدثنا ابن عون عن الشعبي قال: سمعت النعمان بن بشير - ولا أسمع أحدا بعده يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور متشابهات، وسأضرب في ذلك مثلا: إن الله حمى حمى وإن حمى الله ما حرم، وإنه من يرع حول الحمى يوشك أن يخالطه، وأنه من يخالط الريبة يوشك أن يجسر). وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي قال: أخبرنا عيسى قال:
حدثنا زكريا عن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بهذا الحديث، قال: (وبينهما أمور متشابهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ عرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) فهذه الأخبار تمنع من الإقدام على المشكوك فيه أنه من المباح أو المحظور، فوجب استعمالهما، فمن شك فلا سبيل له إلى تبين طلوع الفجر في أول ما يطلع حتى يكون مستبرئا لدينه وعرضه مجتنبا للريبة غير مواقع لحمى الله تعالى، فاستعملنا قوله (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) فيمن يمكنه معرفة طلوعه في أول أحواله، فهذا مذهب أصحابنا وحجاجه فيما ذكرنا. وقال مالك بن أنس: (أكره أن يأكل إذا شك في الفجر، وإن أكل فعليه القضاء). وقال الثوري: (يتسحر الرجل ما شك حتى يرى الفجر). وقال عبيد الله بن الحسن والشافعي: (إن أكل شاكا في الفجر فلا شئ عليه).