العرب تعرف سائر لغاتها، وجائز مع ذلك أن يكونوا عرفوا ذلك اسما للخيط حقيقة ولبياض النهار وسواد الليل مجازا ولكنهم حملوا اللفظ على الحقيقة، فلما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بمراد الله تعالى منه، وأنزل الله تعالى بعد ذلك: (من الفجر) فزال الاحتمال وصار المفهوم من اللفظ سواد الليل وبياض، النهار وقد كان ذلك اسما لسواد الليل وبياض النهار في الجاهلية قبل الاسلام مشهورا ذلك عندهم، قال أبو داود الأيادي:
ولما أضاءت لنا ظلمة * ولاح من الصبح خيط أنارا وقال آخر في الخيط الأسود عليه:
قد كاد يبدو أو بدت تباشره * وسدف الخيط البهيم ساتره * فقد كان ذلك مشهورا في اللسان قبل نزول القرآن به، وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: الخيط الأبيض هو الصبح والخيط الأسود الليل، قال: والخيط هو اللون.
فإن قيل: كيف شبه الليل بالخيط الأسود وهو مشتمل على جميع العالم، وقد علمنا أن الصبح إنما شبه بالخيط لأنه مستطيل أو مستعرض في الأفق، فأما الليل فليس بينه وبين الخيط تشابه ولا مشاكلة؟ قيل له: إن الخيط الأسود هو السواد الذي في الموضع قبل ظهور الخيط الأبيض فيه، وهو في ذلك الموضع مساو للخيط الأبيض الذي يظهر بعده، فمن أجل ذلك سمي الخيط الأسود.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحديد الوقت الذي يحرم به الأكل والشرب على الصائم ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا حماد بن زيد عن عبد الله بن سوادة القشيري عن أبيه قال: سمعت سمرة بن جندب يخطب وهو يقول:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق الذي هكذا حتى يستطير). وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن عيسى قال: حدثنا ملازم بن عمرو عن عبد الله بن النعمان قال: حدثني قيس بن طلق عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلوا واشربوا ولا يهدينكم الساطع المصعد فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر). فذكر في هذا الخبر الأحمر، ولا خلاف بين المسلمين أن الفجر الأبيض المعترض في الأفق قبل ظهور الحمرة يحرم به الطعام والشراب على الصائم، وقال عليه السلام لعدي بن حاتم: (إنما هو بياض النهار وسواد الليل) ولم يذكر الحمرة.
فإن قيل: قد روي عن حذيفة قال: (تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان نهارا إلا أن الشمس لم تطلع). قيل له: لا يثبت ذلك عن حذيفة، وهو مع ذلك من أخبار الآحاد،