رمضان، ومن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) فيكون هذا حكما ثابتا مستقرا مدة من الزمان، ثم نزل قوله: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) فنسخ به التخيير بين الفدية والصوم على نحو ما ذكرنا في قوله عز وجل: (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) [البقرة: 67] مؤخرا في اللفظ، وكان ذلك يعتوره معنيان، أحدهما أنه وإن كان مؤخرا في التلاوة فهو مقدم في التنزيل، والثاني: أنه معطوف عليه بالواو وهي لا توجب الترتيب، فكأن الكل مذكور معا، فكذلك قوله: (أياما معدودات) إلى قوله: (شهر رمضان) يحتمل ما احتملته قصة البقرة.
وأما قوله: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) ففيه عدة أحكام، منها: إيجاب الصيام على من شهد الشهر دون من لم يشهد، فلو كان اقتصر على قوله: (كتب عليكم) إلى قوله: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) لاقتضى ذلك لزوم الصوم سائر الناس المكلفين، فلما عقب ذلك بقوله: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) بين أن لزوم صوم الشهر مقصور على بعضهم دون بعض وهو من شهد الشهر دون من لم يشهده.
وقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر) يعتوره معان، منها: من كان شاهدا يعني مقيما غير مسافر، كما يقال للشاهد والغائب المقيم والمسافر، فكان لزوم الصوم مخصوصا به المقيمون دون المسافرين. ثم لو اقتصر على هذا لكان المفهوم منه الاقتصار بوجوب الصوم عليهم دون المسافرين، إذ لم يذكروا، فلا شئ عليهم من صوم ولا قضاء، فلما قال تعالى: (ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) بين حكم المريض والمسافر في إيجاب القضاء عليهم إذا أفطروا، هذا إذا كان التأويل في قوله: (فمن شهد منكم الشهر) الإقامة في الحضر. ويحتمل قوله: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) أن يكون بمعنى شاهد الشهر أي علمه، ويحتمل قوله: (فمن شهد منكم الشهر) فمن شهده بالتكليف، لأن المجنون ومن ليس بأهل التكليف في حكم من ليس بموجود في انتفاء لزوم الفرض عنه، فأطلق اسم شهود الشهر عليهم وأراد به التكليف، كما قال تعالى:
(صم بكم عمي) [البقرة: 18، 171] لما كانوا في عدم الانتفاع بما سمعوا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع سماهم بكما عميا، وكذلك قوله: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) [ق: 37] يعني عقلا، لأن من لم ينتفع بعقله فكأنه لا قلب له، إذ كان العقل بالقلب، فكذلك جائز أن يكون جعل شهود الشهر عبارة عن كونه من أهل التكليف، إذ كان من ليس من أهل التكليف بمنزلة من ليس بموجود في باب سقوط حكمه عنه.
ومن الأحكام المستفادة بقوله: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) غير ما قدمنا ذكره