وقال الشافعي في كتاب الرسالة: (يحتمل أن تكون المواريث ناسخة للوصية، ويحتمل أن تكون ثابتة معها، فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق مجاهد وهو منقطع أنه قال: (لا وصية لوارث) استدللنا بما روي عن النبي عليه السلام من ذلك على أن المواريث ناسخة للوصية للوالدين والأقربين مع الخبر المنقطع).
قال أبو بكر: قد أعطي القول باحتمال اجتماع الوصية والميراث، فإذا ليس في نزول آية الميراث ما يوجب نسخ الوصية للوارث، فلم تكن الوصية منسوخة بالميراث لجواز اجتماعهما، والخبر لم يثبت عنده لأنه ورد من طريق منقطع وهو لا يقبل المرسل، ولو ورد من جهة الاتصال والتواتر لما قضي به على حكم الآية، إذ غير جائز عنده نسخ القرآن بالسنة، فواجب أن تكون الوصية للوالدين والأقربين ثابتة الحكم غير منسوخة، إذا لم يرد ما يوجب نسخها.
قال الشافعي: (وحكم النبي صلى الله عليه وسلم في ستة مملوكين أعتقهم رجل لا مال له غيرهم، فجزأهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين وأرق أربعة، والذي أعتقهم رجل من العرب، والعرب إنما تملك من لا قرابة بينه وبينه من العجم، فأجاز لهم النبي صلى الله عليه وسلم الوصية، فدل ذلك على أن الوصية لو كانت تبطل لغير قرابة بطلت للعبيد المعتقين لأنهم ليسوا بقرابة للميت وبطلت وصية الوالدين).
قال أبو بكر: هذا كلام ظاهر الاختلال منتقض على أصله، فأما اختلاله فقوله:
(إن العرب إنما تملك من لا قرابة بينه وبينه من العجم) وهذا خطأ من قبل أنه جائز أن تكون أمه أعجمية، فيكون أقرباؤه من قبل أمه عجما، فيكون العتق الذي أوقعه المريض وصية لأقربائه. ومن جهة أخرى أنه لو ثبت أن آية المواريث نسخت الوصية للوالدين والأقربين فإنما نسختها لمن كان منهم وارثا، فأما من لا يرث منهم فليس في إثبات الميراث لغيره ما يوجب نسخ وصيته، وأما انتقاضه على أصله فإيجابه نسخ الوصية للأقربين بخبر عمران بن حصين في عتق المريض لعبيده، ومن أصله أن السنة لا تنسخ القرآن.
وقد روي عن جماعة من الصدر الأول والتابعين تجويز الوصية للأجانب وأنها تنفذ على ما أوصى بها. وروي أن عمر أوصى لأمهات أولاده لكل امرأة منهن بأربعة آلاف درهم. وعن عائشة وإبراهيم وسعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله وعمرو بن دينار والزهري قالوا: (تنفذ وصيته حيث جعلها). وقد حصل الاتفاق من الفقهاء بعد عصر التابعين على جواز الوصايا للأجانب والأقارب.