الألسن، وسهل به عليهم المستصعب. فيه إياه يوحدون، وإياه به يسبحون ويقدسون، وإلى حاجاتهم به يتوصلون، وبه بينهم يتحاورون، فيتعارفون ويتعاملون.
ثم جعلهم - جل ذكره - فيما منحهم نم ذلك طبقات، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، فبين خطيب مسهب، وذلق اللسان مهذب (1)، ومفحم عن نفسه لا يبين، وعي عن ضمير قلبه لا يعبر، وجعل أعلاهم فيه رتبة، وأرفعهم فيه درجة، أبلغهم فيما أراد به بلاغا، وأبينهم عن نفسه به بيانا.
ثم عرفهم في تنزيله ومحكم آي كتابه فضل ما حباهم به من البيان، على من فضلهم به عليه من ذي البكم والمستعجم (2) اللسان، فقال تعالى ذكره: (أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين) (3).
فقد وضح إذا لذوي الافهام، وتبين لأولي الألباب، أن فضل أهل البيان على أهل البكم والمستعجم اللسان، بفضل اقتدار هذا من نفسه على إبانة ما أراد إبانته عن نفسه ببيانه، واستعجام لسان هذا عما حاول إبانته، فإذا كن ذلك كذلك، وكان المعنى الذي به باين الفاضل المفضول في ذلك، فصار به فاضلا والآخر مفضولا، وهو ما وصفناه به من فضل إبانة ذي البيان عما قصر عنه المستعجم اللسان، وكان ذلك مختلف الاقدار، متفاوت الغايات والنهايات، ولا شك أن أعلى منازل البيان درجة، وأسنى مراتبه مرتبة، أبلغه في حاجة المبين عن نفسه، وأبينه عن مراد قائله، وأقربه من فهم سامعه.
فإن تجاوز ذلك المقدار، ارتفع عن وسع الأنام، وعجز عن يأتي بمثله جميع العباد، وكان حجة وعلما لرسل الواحد القهار، وكما كان حجة وعلما لها إحياء الموتى وإبراء الأبرص وذوي العمى، بارتفاع ذلك عن مقادير (4) أعلى منازل طب المتطببين، وأرف مراتب علاج المعالجين، إلى ما يعجز عنه جميع العالمين. وكالذي كان لها حجة وعلما قطع مسافة شهرين في الليلة الواحدة، بارتفاع ذلك عن وسع الأنام، وتعذر مثله على جميع العباد، وإن كانوا على قطع القليل من المسافة قادرين، ولليسير منه فاعلين.