الثاني أن الملاك واقعا هو تواري المسافر من البلد وغيبوبته عنه كما في الرواية، لكن الأصحاب إنما عبروا عنه بما عبروا لما رأوا أن الرواية وردت في مقام التحديد وبيان أمارة يعتمد عليها المسافر في قصره وإتمامه، وما يمكن أن يطلع عليه المسافر إنما هو خفاء البلد عليه، وأما خفاؤه على البلد فأمر لا يطلع عليه إلا بمثل التلغراف ونحوه مثلا، فعبروا عما هو الملاك واقعا بما يكون أمارة على تحققه قبلها، يجوز جعل شيء يحصل عقيب شيء آخر أمارة على ذلك الشيء. فمحط نظرهم هو أنه يجب القصر عند خفاء الجدران من جهة أنه يكشف عن تحقق ملاك القصر قبله. ونظير ذلك ما ذكروه من أن وصول الكواكب الطالعة في أول الغروب إلى دائرة نصف النهار أمارة على انتصاف الليل، مع أنه من الواضحات أن الليل الشرعي من المغرب إلى الفجر، فالانتصاف يحصل قبل وصول الكواكب إلى دائرة نصف النهار كما لا يخفى.
الثالث أن يقال: إنا لا نسلم أن تواري المسافر من البيوت يحصل قبل تواري البيوت منه، بل لعلهما متلازمان، فيجوز التعبير عن أحدهما بالآخر.
بيان ذلك: أن المراد بالبيوت إن كان هي البيوت المرتفعة المتداولة في زماننا المشتملة على طبقتين أو أزيد سلمنا عدم التلازم بين خفائها على المسافر وخفاء المسافر عليها، ولكن الظاهر أن المراد منها ليس هذا القبيل من البيوت، بل المراد منها هي البيوت المتداولة في عصر صدور الرواية: من بيوت الأعراب وخيمهم التي لم يكن ارتفاعها أزيد من ارتفاع قامة الإنسان بكثير، فيتلازم خفاؤها المسبب عن البعد مع تواري المسافر عنها، إذ المؤثر في قبلية الخفاء وبعديته هو طول الارتفاع قصره، ولا دخالة لعرض الشيء في ذلك كما لا يخفى. وبالجملة خفاء البيوت أمارة تكشف عن حصول خفاء المسافر وثبوت الترخص إما من حينه كما هو مقتضى هذا الوجه أو من قبله كما هو مقتضى الوجه الثاني، فتدبر.