الفعلي، بحيث لولا طروء المزعجات والقواسر، أعني الحوائج الداعية إلى السفر، لكان مستقرا فيه غير خارج منه، وآية ذلك رجوعه إليه بحسب طبعه وعادته بعد ما أخذ حظه من سفره وارتفع حاجته فيه. وهذا من غير فرق بين أن يكون اختياره لهذا البلد من جهة كونه محلا لإقامة آبائه وأقاربه، أو لكونه بلدا مناسبا لشغله حرفته، أو لكون مائه وهوائه ملائمين لمزاجه، أو لكون سيرة أهله وأخلاقهم مناسبة لروحه، أو لكونه محلا لما هو طالبه من كسب العلوم والآداب، أو لغير ذلك من الجهات. وسواء كان له في هذا البلد ملك أو منزل مملوك أو غير مملوك، أو لم يكن، بل كان من سكان المدارس أو المساجد والمعابر. وسواء كان من قصده البقاء في هذا البلد إلى أن يموت فيه، أولم يقصد ذلك، بل لم يلتفت إليه أصلا. بل يمكن أن يقال بعدم إضرار التوقيت أيضا في صدق الوطن إذا كان قاصدا للإقامة فيه مدة مديدة إقامة سائر الناس في منازلهم من جهة اقتضاء وضعه الفعلي لذلك. فالطلاب المجتمعون في مجامع الحوزات العملية المقيمون فيها عشرين سنة أو أزيد ربما يعدون متوطنين في تلك المجامع العلمية وإن لم يكن من قصدهم البقاء فيها دائما. والتاجر الذي ارتحل عن مسقط رأسه إلى بلد آخر وصار فيه مشتغلا بشغله وتجارته واتخذ فيه دارا لإقامته وإقامة أهله ربما يعد هذا البلد وطنا له وإن كان من قصده أن يرجع في آخر عمره إلى مسقط رأسه. وهكذا.
وبالجملة لا يلاحظ في انتزاع عنوان الوطن الاعتبارات والإضافات السابقة أو اللاحقة، بل الإضافة الفعلية بين الشخص ومقره. فما هو المقر الفعلي للشخص بحيث يبقى فيه لو خلي وطبعه يسمى وطنا له.
ويدل على ذلك كلمات أهل اللغة أيضا في تفسير الوطن والموطن واشتقاقاتهما:
قال في الصحاح: " الوطن محل الإنسان. وقد خففه رؤبة بقوله: