بمعنى أن هذه الحروف هي الذات الأزلي الذي نعبده.
فصفة الكلام أزلية أبدية لا يجوز أن تكون حروفا ولا أصواتا لأن الحرف والصوت مخلوقان بالمشاهدة، فكما أن صفاته من العلم والقدرة والإرادة وغيرها أزلية قديمة كذلك كلامه الذاتي أزلي قديم ليس حرفا ولا صوتا، وذلك لأنه سبحانه مباين أي غير مشابه لجميع الخلق كما أن صفاته لا تشبه صفات المخلوقين وأفعاله لا تشبه أفعال الخلق، لأن فعل الله سبحانه وتعالى أزلي قديم أبدي والمفعول حادث كما أن القدرة أزلية أبدية والمقدور حادث فنحن العوالم والحوادث كلنا مقدور لله تعالى أوجدنا بقدرته الأزلية الأبدية، قال الإمام أبو حنيفة والبخاري رحمهما الله تعالى: (فعله سبحانه صفة له في الأزل والمفعول حادث).
قال العلامة علي القاري الحنفي في (شرح الفقه الأكبر) ص (29):
(- المبتدعة - قالوا كلامه حروف وأصوات تقوم بذاته وهو قديم وبالغ بعضهم جهلا حتى قال: الجلد والقرطاس قديمان فضلا عن الصحف، وهذا قول باطل بالضرورة ومكابرة للحس، للاحساس بتقدم الباء على السين في بسم الله ونحوه) انتهى.
فاتضح من هذا كله جليا مسألة خلق القرآن وهي أن القرآن إذا أردنا وقصدنا به صفة الله تعالى القديمة فهذا غير مخلوق ومن قال إنه مخلوق كفر، وإن قصدنا به المصحف الذي بأيدينا الذي نزل به سيدنا جبريل وكذا ألفاظنا وقراءتنا فمخلوق بلا شك ولا ريب لقوله تعالى * (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون) * ولأن المصحف من ورق وحبر وهما مخلوقان، ولأن سيدنا جبريل عليه السلام لا يتصور أن يحمل قديما فينقله من مكان إلى مكان، ولأن قراءة القارئ وصوته حادثان مثله لاستحالة قيام القديم بالحادث، وهذا مما لا جدال فيه.
قلت: وقد وقع الخلاف في هذه المسألة بين جماعة من الأئمة كما بيناه في فصل اختلاف السلف. والصحيح في المسألة ما بيناه هنا.