ذبولا لا يرتفع إلا بالانتقام، وربما أدى هذا الذبول إلى بعض الرذائل المهلكة.
وأما العدالة فقد عرفت أنها عبارة عن انقياد القوة العملية للعاقلة، أو امتزاج القوى وتسالمها وانقهار الجميع تحت العاقلة، بحيث يرتفع بينها التنازع والتجاذب، ولا يغلب بعضها على بعض، ولا يقدم على شئ غير ما تسقط له العاقلة. وإنما يتم ذلك إذا حصلت للانسان ملكة راسخة تصدر لأجلها جميع الأفعال على نهج الاعتدال بسهولة، ولا يكون له غاية في ذلك سوى كونها فضيلة وكمالا، فمن يتكلف أعمال العدول رياء وسمعة، أو لجلب القلوب، أو تحصيل الجاه والمال ليس عادلا.
وقس على ذلك جميع أنواع الفضائل المندرجة تحت الأجناس المذكورة فإنه بإزاء كل منها رذيلة شبيهة بها، فينبغي لطالب السعادة أن يعرفها ويجتنب عنها، مثلا السخاء عبارة عن ملكة سهولة بذل المال على المستحق، مع كون الغاية الباعثة له عليه مجرد كونه فضيلة وكمالا، دون الأغراض الأخر، فبذل المال لتحصيل الأزيد، أو لدفع الضرر، أو نيل الجاه، للوصول إلى شئ من اللذات الحيوانية ليس سخاء، وكذا بذله لغير المستحق والإسراف في إنفاقه، فإن المبذر جاهل بعظم قدر المال، والاحتياج إليه في مواقع لولاه لأدى إلى تضييع الأهل والعيال والعجز عن كسب المعارف وفضائل الأعمال، وله دخل عظيم في ترويج أحكام الملة ونشر الفضيلة والحكمة، ولذا ورد في الصحيفة السليمانية (إن الحكمة مع الثروة يقظان، ومع الفقر نائم) (14) وربما كان منشأ التبذير عدم العلم بصعوبة تحصيل الحلال منه، وهكذا يكون في الأغلب لمن يظفر بمال بغتة من ميراث أو غيره مما لا يحتاج إلى كد وعمل، فإن مثله غافل عن صعوبة كسب الحلال منه، إذ المكاسب الطيبة قليلة جدا، وارتكابها للأحرار مشكل، ولذا ترى أفاضل الأحرار ناقصي الحظوظ منه شاكين عن بختهم، وأضدادهم على خلاف ذلك، لعدم مبالاتهم من تحصيله بأي نحو كان. وقد قال بعض الحكماء: " إن تحصيل المال بمنزلة نقل الحجر إلى قلة الجبل وإنفاقه كإطلاقه ".