وينبغي أن يكون الباعث للاتصاف بتلك الملكة وصدور آثارها مجرد كونها فضيلة وكمالا للنفس وحصول السعادة الحقيقية بها، لا شئ آخر من دفع ضر، أو جلب نفع، أو اضطرار وإلجاء، فالإعراض عن اللذات الدنيوية لتحصيل الأزيد من جنسها ليس عفة، كما هو شأن بعض تاركي الدنيا للدنيا وكذا الحال في تركها لخمود القوة وقصورها وضعف الآلة وفتورها، أو لحصول النفرة من كثرة تعاطيها، أو للحذر من حدوث الأمراض والأسقام، أو اطلاع الناس وتوبيخهم، أو لعدم درك تلك اللذات كما هو شأن بعض أهالي الجبال والبوادي.. إلى غير ذلك.
وأما فضيلة الشجاعة، فقد عرفت أنها ملكة انقياد القوة الغضبية للعقل حتى يكون تصرفها بحسب أمره ونهيه، ولا يكون للاتصاف بها وصدور آثارها داع سوى كونها كمالا وفضيلة، فالإقدام على الأمور الهائلة، والخوص في الحروب العظيمة، وعدم المبالاة من الضرب والقطع والقتل لتحصيل الجاه والمال، أو الظفر بامرأة ذات جمال، أو للحذر من السلطان ومثله، أو للشهوة بين أبناء جنسه، ليست صادرة عن ملكة الشجاعة، بل منشأها إما رذيلة الشره أو الجبن، كما هو شأن عساكر الجائرين، وقاطعي الطرق والسارقين، فمن كان أكثر خوضا في الأهوال، وأشد جرأة على الأبطال للوصول إلى شئ من تلك الأغراض، فهو أكثر جبنا وحرصا، لا أكثر شجاعة ونجدة. وقس على ذلك الوقوع في المهالك والأهوال، تعصبا عن الأقارب والأتباع، وربما كان باعثه تكرر ذلك منه مع حصول الغلبة، فاغتر بذلك ولم يبال بالإقدام اتكالا على العادة الجارية. ومثله مثل رجل ذي سلاح لم يبال بالمحاربة مع طفل أعزل، فإن عدم الحذر عنه ليس لشجاعته، بل لعجز الطفل. ومن هذا القبيل ما يصدر عن بعض الحيوانات من الصولة والإقدام، فإنه ليس صادرا عن ملكة الشجاعة، بل عن طبيعة القوة والغلبة.
وبالجملة: الشجاع الواقعي ما كانت أفعاله صادرة عن إشارة العقل ولم يكن له باعث سوى كونها جميلة، فربما كان الحذر عن بعض الأهوال من مقتضيات العقل فلا ينافي الشجاعة، وربما لم يكن الخوض في بعض الأخطار من موجباته فينافيها، ولذا قيل عدم الفزع مع شدة الزلازل وتواتر