لها قوام بذاتها وإنما تتقوم بالبدن، ثم بتوسط قواها تكتسب العلوم والأخلاق وترتسم بالصور والأعمال إلى أن تتقوم بها، وتصل إلى ما خلقت لأجله.
ولما كانت قواها متخالفة متنازعة فما لم يغلب إحداها لم تدخل النفس في عالمه (33) الذي تخصه فلا تزال من تنازعها معركة للآثار المختلفة والأحكام المتباينة إلى أن يغلب إحداها فتظهر في النفس آثاره ويدخل في عالمه الخاص.
ولما كانت القوة العاقلة من سنخ الملائكة، والواهمة من حزب الأبالسة والغضبية من أفق السباع، والشهوية من عالم البهائم، فبحسب غلبة واحدة منها تكون النفس إما ملكا أو شيطانا أو كليا أو خنزيرا، فلو كانت الغلبة والسلطنة لقهرمان العقل ظهر في مملكة النفس أحكامه وآثاره، وانتظمت أحوالها، ولو كانت لغيره من القوى ظهر فيها آثاره فتهلك النفس ويختل معاشها ومعادها.
ثم المنشأ للتنازع والتجرد والبقاء في نفس الإنسانية إنما هو قوتها العقلية لأن التدافع إنما بينها وبين سائر القوى، فليس في نفوس سائر الحيوانات لفقدانها العاقلة تنازع وتجادب وإن اختلفت في غلبة ما فيها من القوى، فإن الغلبة في الشياطين للواهمة، وفي السباع للغضب، وأما الملائكة فتنحصر قوتها بالعاقلة فليس فيها سائر القوى فلا يتحقق فيها تدافع وتنازع.
فالجامع لعوالم الكل هو الإنسان وهو المخصوص من بين المخلوقات بالصفات المتقابلة، ولذلك صار مظهرا للأسماء المتقابلة الإلهية، وقابلا للخلافة الربانية وقائما بعمارة عالمي الصورة والمعنى.
والملائكة وإن كانوا مخصوصين بالجنة الروحانية ولوازمها من الإشراقات العلمية، وتوابعها من اللذات العقلية، إلا أنه ليس لهم جهة جسمانية ولوازمها والأجسام الفلكية وإن كانت لها نفوس ناطقة على قواعد الحكمة إلا أنها خالية عن الطبائع المختلفة، والكيفيات المتباينة، وليس لها سير في المدارج المتخالفة، والمراتب المتفاوتة، ولا تقلب في أطوار النقص والكمال، ولا تحول في جميع التقاليب والأحوال، بخلاف الإنسان فإنه محيط بجميع المراتب المختلفة، وسائر في الأطوار المتباينة من الجمادية والنباتية والحيوانية