والنيات باقية أبدا لم يكون للخلود في الجنة أو النار وجه صحيح، إذ لو كان المقتضي للثواب أو العذاب نفس العمل والقول، وهما زائلان لزم بقاء المسبب مع زوال السبب وهو باطل، وكيف يجوز للحكيم أن يعذب عباده أبد الدهر لأجل المعصية في زمان قصير، فإذا منشأ الخلود هو الثبات في النيات والرسوخ في الملكات، ومع ذلك فمن يعمل مثقال ذرة من الخير أو الشر يرى أثره في صحيفة نفسه أو في صحيفة أعلى وأرفع من ذاته أبدا كما قال سبحانه:
(في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة) (22).
والسر فيه أن الأمر الذي يبقى مع النفس إلى حين مفارقتها من الدنيا ولم يرتفع عنها في دار التكليف يبقى معها أبدا ولا يرتفع عنها أصلا لعدم تجدد ما يوجب إزالته بعد مفارقته عن عالم التكليف.
ثم الظاهر أن هذا المذهب - عند من قال به من أهل الشرائع - بيان لكيفية الثواب والعقاب الروحانيين مع إذعانه بالجنة والنار الجسمانيين " إذ لو كان مراده قصر اللذة والثواب والألم والعقاب والجنات والقصور والغلمان والحور والنار والجحيم والزقوم والضريع وساير ما ورد في الشريعة القادسة من أمور القيامة على ما ذكر فهو مخالف لضرورة الدين.
(تنبيه) الدنيا والآخرة متضادتان، وكل ما يقرب العبد إلى إحداهما يبعد عن الأخرى وبالعكس، كما دلت عليه البراهين الحكمية والشواهد الذوقية والأدلة السمعية، فكل ملكة أو حركة أو قول أو فعل يقرب العبد إلى دار الطبيعة والغرور يبعده عن عالم البهجة والسرور، وبالعكس، فأسوأ الناس حالا من لم يعرف حقيقة الدنيا والآخرة وتضادهما ولم يخف سوء العاقبة وأفنى عمره في طلب الدنيا وإصلاح أمر المعاش وقصر سعيه على جر المنفعة لبدنه من نيل شهوة أو بلوغ لذة أو اكتساب ترفع، ورئاسة أو جمع المال من غير تصور لما يصل إليه من فائدته، كما هو عادة أكثر أبناء الدنيا، ولم يعرف غير هذه الأمور من المعارف الحقيقية والفضائل الخلقية والأعمال الصالحة المقربة إلى عالم البقاء فكأنه يعلم خلوده في الدنيا، ولا يرجو بعد الموت ثواب عمل، ولا جزاء فعل، ولا يعتقد بما يرجوه المؤمنون