البدنية، فتختص السعادة فيهم بالملكات الفاضلة، والعلوم الحقة اليقينية، والوصول إلى مشاهدة جمال الأبد، ومعاينة جلال السرمد. وقالوا إن الأولى لشوبها الزخارف الحسية، ولكدورات الطبيعية ناقصة كدرة، وأما الثانية فدخلوها عنها تامة صافية، لأن المتصف بها يكون أبدا مستنيرا بالأنوار الإلهية، مستضيئا بالأضواء العقلية، مستهترا (35) بذكر الله وأنسه، مستغرقا في بحر عظمته وقدسه، وليس له التفات إلى ما سوى ذلك، ولا يتصور له تحسر على فقده لذة أو محبوب، ولا شوق إلى طلب شئ مرغوب، ولا رغبة إلى أمر من الأمور، ولا رهبة من وقوع محذور، بل يكون منصرفا بجزئه العقلي مقصورا همه على الأمور الإلهية من دون التفات إلى غيرها.
وهذا القول ترجيح لطريقة المعلم الأول، من حيث إثبات سعادة للبدن، ولطريقة الأقدمين من حيث نفي حصول السعادة العظمى للنفس ما دامت متعلقة بالبدن. وهو " الحق المختار " عندنا، إذ لا ريب في كون ما هو وصلة إلى السعادة المطلقة سعادة إضافية. ومعلوم أن غرض القائل يكون متعلقات الأبدان كالصحة والمال والأعوان سعادة أنها سعادة إذا جعلت آلة لتحصيل السعادة الحقيقية لا مطلقا، إذ لا يقول عاقل إن الصحة الجسمية، والحطام الدنيوي سعادة، ولو جعلت وسيلة إلى اكتساب سخط الله وعقابه، وحاجبة عن الوصول إلى دار كرامته وثوابه، وكذا لا ريب في أن النفس ما دامت متعلقة بالبدن مقيدة في سجن الطبيعة لا يحصل لها العقل الفعلي، ولا تنكشف لها الحقائق كما هي عليه انكشافا تاما، ولا تصل إلى حقيقة ما يترتب على العلم والعمل من الابتهاجات العقلية واللذات الحقيقية. ولو حصلت لبعض المتجردين عن جلباب البدن يكون في آن واحد ويمر كالبرق الخاطف.
هذا وقد ظهر من كلمات الجميع أن حقيقة الخير والسعادة ليس إلا المعارف الحقة، والأخلاق الطيبة، والأمر وإن كان كذلك من حيث أن حقيقتهما ما يكون مطلوبا لذاته، وباقيا مع النفس أبدا وهما كذلك، إلا أنه لا ريب في أن ما يترتب عليهما من حب الله وأنسه، والابتهاجات العقلانية، واللذات الروحانية مغاير لهما من حيث الاعتبار، وإن لم ينفك عنهما، ومطلوبيته