شيئا من ذلك لم تقدر عليه، ثم خلق الحركات في أعضائك مستبدا باختراعها من غير مشاركة لك معه في الاختراع، إلا أنه خلقها على ترتيب، فلم يخلق الحركة ما لم يخلق في العضو قوة وفي القب إرادة، ولم يخلق العلم ما لم يخلق القلب الذي هو محله، فتدريجه في الخلق شيئا بعد شئ هو الذي خيل إليك أنك مستقل بإيجاد عملك، وقد غلطت، فإن تحريك البواعث وصرف العوائق، وتهيئة الأسباب، كلها من الله، ليس شئ منها إليك.
ومن العجائب أن تعجب بنفسك، ولا تعجب بمن إليه الأمر كله، ولا تعجب بجوده وكرمه، وفضله في إيثاره إياك على الفساق من عباده، إذ مكنهم من أسباب الشهوات واللذات، وزواها عنك، وصرف عنهم بواعث الخير وهيأها لك، حتى يتيسر لك الخير من غير وسيلة سابقة منك.
روي: " أن أيوب عليه السلام قال: (إلهي إنك ابتليتني بهذا البلاء، وما ورد علي أمر إلا آثرت هواك على هواي)، فنودي من غمامة بعشرة آلاف صوت: يا أيوب! أنى لك ذلك؟ قال: فأخذ رمادا فوضعه على رأسه، وقال: منك يا رب! فرجع عن نسيانه، وأضاف ذلك إلى الله تعالى، ولذلك قال الله تعالى:
" ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا " (56).
وقال النبي (ص): " ما منكم من أحد ينجيه عمله "، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ".
(فإن قيل): ما ذكرت من استناد الصفات والأفعال ومحلها جميعا إلى الله تعالى، يؤدي إلى الجبر ونفي التكليف، وبطلان الثواب والعقاب، (قلنا): هذا فرع باب مسألة يتعلق بعلم آخر، ولا يليق بيانها هنا (57).
ونحن لم نسلب القدرة والاختيار عن العبد بالكلية في متعلق التكليف - أعني أفعاله العرضية - بل نفينا استقلاله فيها. نعم، في غيرها من المحال والأسباب والصفات اللازمة، والتوفيق، وتحريك البواعث، وصرف الموانع، لا قدرة له فيها أصلا، ولا يلزم منه فساد.