الماء يخلو عن الهواء، فكذلك القلب إذا كان مشغولا بفكر مهم في الدين يمكن أن يخلو من جولان هذا اللعين، وأما لو غفل عن الله ولو في لحظة، فليس له في تلك اللحظة قرين إلا الشيطان، كما قال سبحانه:
" ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين " (48).
وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: " إن الله يبغض الشاب الفارغ " لأن الشاب إذا تعطل عن عمل مباح يشغل باطنه لا بد أن يدخل في قلبه الشيطان ويعيش فيه ويبيض يفرخ، وهكذا يتوالد نسل الشيطان توالدا أسرع من توالد الحيوانات، لأن الشيطان طبعه من النار، والشهوة في نفس الشاب كالحلفاء (49) اليابسة، فإذا وجدها كثر تولده وتولدت النار من النار ولم تنقطع أصلا.
فظهر أن وسواس الخناس لا يزال يجاذب قلب كل إنسان من جانب إلى جانب، ولا علاج له إلا قطع العلائق كلها ظاهرا وباطنا، والفرار عن الأهل والمال والولد والجاه والرفقاء، ثم الاعتزال إلى زاوية، وجعل الهموم هما واحدا هو الله. وهذا أيضا غير كاف ما لم يكن له مجال في الفكر وسير في الباطن في ملكوت السماوات والأرض وعجائب صنع الله، فإن استيلاء ذلك على القلب واشتغاله به يدفع مجاذبة الشيطان ووسواسه، وإن لم يكن له سير بالباطن فلا ينجيه إلا الأوراد المتواصلة المترتبة في كل لحظة من الصلوات والأذكار والأدعية والقراءة. ويحتاج مع ذلك إلى تكليف القلب الحضور، إذ الأوراد الظاهرة لا تستغرق القلب، بل التفكير بالباطن هو الذي يستغرقه، وإذا فعل كل ذلك لم يسلم له من الأوقات إلا بعضها، إذ لا يخلو في بعضها عن حوادث تتجدد وتشغله عن الفكر والذكر، كمرض أو خوف أو إيذاء وطغيان، ولو من مخالطة بعض لا يستغنى عنه في الاستعانة في بعض أسباب المعيشة.