كل ذرة من ذرات الخلق عجائب حكمة وغرائب قدرة، بهر منها عقله ووهمه، وحسر دونها لبه وفهمه.
ثم لا ريب في أن طبقات العوالم المنتظمة المرتبة على النحو الأصلح والنهج الأحسن بأمر موجدها الحكيم ومدبرها العليم، مبتدأة في الصدور من الأشرف فالأشرف، حتى ينتهي إلى أسفل العوالم وأخسها، وهو عالم الأرض بما فيه، وكل عالم أسفل لا قدر له بالنسبة إلى ما فوقه، فلا قدر للأرض بالنظر إلى عالم الجو، ولا للجو بالقياس إلى عالم السماوات، ولا للسماوات بالنسبة إلى عالم المثال، ولا للمثال بالنظر إلى عالم الملكوت، ولا للملكوت بالقياس إلى الجبروت، ولا للجميع بالنسبة إلى ما لا سبيل لنا إلى دركه تفصيلا وإجمالا من عوالم الألوهية، كما ظهر لعلماء الطبيعة وأهل الرصد والهندسة، ووضح لأرباب المكاشفة والعرفان وأصحاب المشاهدة والعيان.
ثم أخس العوالم الذي عرفت حاله - أعني الأرض - لا قدر لما على ظهرها من الحيوان والنبات والجماد، بالنظر إلى نفسها، ولذا يفسد من أدنى تغير لها جل ما عليها، ولكل جنس مما عليها أنواع وأقسام وأصناف غير متناهية. وأضعف أنواع الحيوان البعوضة والنحل، وأشرف أنواعه الإنسان. فنحن نشير إلى نبذة يسيرة من الحكم والعجائب المودعة فيها، وكيفية التفكر فيها، ليقاس عليها البواقي إجمالا. فإن بيان مجاري التفكر بأسرها في حيز المحال، وما يمكن منه خارج عن حيطة الضبط والتدوين، ولذا ترى أن البارعين من الحكماء والفائقين من أجله العرفاء بذلوا وسعهم في بيان مجاري التفكر ومطارحه وشرح مجال النظر ومسارحه، فسطروا فيه الأساطير وملأوا منه الطوامير، وخاضوا في عمرات بحار الأفكار وغاصوا في تيار لجج الأنظار، ومع ذلك لم يعودوا بالنظر إلى ما هو الواقع الأصفر اليدين ورجعوا آخر الأمر (يخفي حنين). ونحن لو تعرضنا لشرح ما يمكن لنا دركه من الحكم والغرائب المودعة في عضو واحد من أعضائها على التفصيل، لخرجنا عن وضع الكتاب، وارتكبنا ما يمل الناظرين من الإطناب، فنشير إجمالا إلى بعض ما فيها من الحكم والعجائب، تنبيها للطالبين على كيفية التفكر في الصنائع الإلهية، فنقول: