ورياضات قوية، وترك رسوم العادات وقطع أصول الشهوات، وقلع الخواطر النفسانية وقمع الهواجس الشيطانية، والطهارة عن أدناس جيفة الطبيعة، والتنزه عن زخارف الدنيا الدنية، وبدون ذلك لا يحصل هذا النوع من اليقين والمشاهدة:
وكيف ترى ليلي بعين ترى بها * سواها وما طهرتها بالمدامع ثم فوق ذلك مرتبة يثبتها بعض أهل السلوك ويعبرون عنه (بحقيقة حق اليقين) والفناء في الله، وهو أن يرى العارف ذاته مضمحلا في أنوار الله محترقا من سبحات وجهه، بحيث لا يرى استقلالا ولا تحصيلا أصلا، ومثاله اليقين بوجود النار بدخوله فيها واحتراقه منها.
ثم لا ريب في أن اليقين الحقيقي النوراني المبري عن ظلمات الأوهام والشكوك ولو كان من المرتبة الأولى لا يحصل من مجرد الفكر والاستدلال، بل يتوقف حصوله على الرياضة والمجاهدة وتصقيل النفس وتصفيتها عن كدورات ذمائم الأخلاق وصدأها، ليحصل لها التجرد التام فتحاذي شطر العقل الفعال، فتتضح فيها جلية الحق الاتضاح. والسر أن النفس بمنزلة المرآة تنعكس إليها صور الموجودات من العقل الفعال، ولا ريب في أن انعكاس الصور من ذوات الصور إلى المرآة يتوقف على تمامية شكلها وصقالة جوهرها وحصول المقابلة وارتفاع الحائل بينهما والظفر بالجهة التي فيها الصور المطلوبة، فيجب في انعكاس حقائق الأشياء من العقل إلى النفس:
1 - عدم نقصان جوهرها، فلا يكون كنفس الصبي التي لا تنجلي لها المعلومات لنقصانها 2 - وصفاؤها عن كدورات ظلمة الطبيعة وأخباث المعاصي، ونقاؤها عن رسوم العادات وخبائث الشهوات، وهو بمنزلة الصقالة عن الخبث والصدأ 3 - وتوجهها التام وانصراف فكرها إلى المطلوب، فلا يكون مستوعب ألهم بالأمور الدنيوية وأسباب المعيشة وغيرهما من الخواطر المشوشة لها. وهو بمنزلة المحاذاة 4 - وتخليتها عن التعصب والتقليد. وهو بمثابة ارتفاع الحجب 5 - واستحصال المطلوب من تأليف مقدمات مناسبة للمطلوب على الترتيب المخصوص والشرائط المقررة، وهو بمنزلة العثور على الجهة التي فيها الصورة.