ولولا هذه الأسباب المانعة للنفوس عن إفاضة الحقائق اليقينية إليها، لكانت عالمة بجميع الأشياء المرتسمة في العقول الفعالة، إذ كل نفس لكونها أمرا ربانيا وجوهرا ملكوتيا فهي بحسب الفطرة صالحة لمعرفة الحقائق، ولذا امتازت عن سائر المخلوقات من السماوات والأرض والجبال، وصارت قابلة لحمل أمانة الله (26) التي هي المعرفة والتوحيد، فحرمان النفس عن معرفة أعيان الموجودات إنما هو لأحد هذه الموانع، وقد أشار سيد الرسل - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى مانع التعصب والتقليد بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - " كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه ويمجسانه (27) وينصرانه "، وإلى مانع كدورات المعاصي وصدأها بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: " لولا أن الشياطين يحرمون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات والأرض ". فلو ارتفعت عن النفس حجب السيئات والتعصب وحاذت شطر الحق الأول تجلت لها صورة عالم الملك والشهادة بأسره، إذ هو متناه يمكن لها الإحاطة به، وصورة عالمي الملكوت والجبروت بقدر ما يتمكن منه بحسب مرتبته، لأنهما الأسرار الغائبة عن مشاهدة الأبصار المختصة بإدراك البصائر، وهي غير متناهية، وما يلوح منها للنفس متناه، وإن كانت في نفسها وبالإضافة إلى علم الله سبحانه غير متناهية، ومجموع تلك العوالم يسمى ب (العالم الربوبي)، إذ كل ما في الوجود من البداية إلى النهاية منسوب إلى الله سبحانه، وليس في الوجود سوى الله سبحانه وأفعاله وآثاره، فالعالم الربوبي والحضرة الربوبية هو العالم المحيط بكل الموجودات، فعدم تناهيه
(١٣٠)