إلى بعض الوسائط التي يتراءى في بادي النظر منشئيتها لبعض الأمور، كالاعتماد على الغيم في نزول المطر، وعلى المطر في خروج الزرع ونباته ونمائه وعلى الريح في استواء السفينة وسيرها، وعلى بعض نظرات الكواكب واتصالاتها في حدوث بعض الحوادث في الأرض، وكالالتفات إلى اختيار بعض الحيوانات وقدرتها على بعض الأفعال، فيوسوس الشيطان في قلبه ويقول له: كيف ترى الكل من الله تعالى، وهذا الإنسان يعطيك رزقك باختياره فإن شاء أعطاك وإن شاء منع، وهذا الشخص قادر على حز رقبتك بسيفه فإن شاء حز رقبتك وإن شاء عفى عنك، فكيف لا تخافه ولا ترجوه وأمرك بيده، وأنت تشاهد ذلك ولا تشك فيه؟
ولا ريب في أن أمثال هذه الالتفاتات جهل بحقائق الأمور، ومن مكن الشيطان وسلطه على نفسه حتى يوقع هذه الوساوس في قلبه فهو من الجاهلين بأبواب المعارف، إذ من انكشف له أمر العالم كما هو عليه، علم أن السماء والكواكب والريح والغيم والمطر والانسان والحيوان.. وغير ذلك من المخلوقات كلهم مقهورون مسخرون للواحد الحق الذي لا شريك له، فيعلم أن الريح مثلا هواء، والهواء لا يتحرك بنفسه ما لم يحركه محرك، وهذا المحرك لا يحرك الهواء ما لم يحركه على التحريك محرك آخر.. وهكذا إلى أن ينتهي إلى المحرك الأول الذي لا محرك له ولا هو متحرك في نفسه.
وكذا الحال في توسط غيره من الأفلاك ونجومها، وكائنات الجو، والموجودات على الأرض من الجماد والنبات والحيوان.
فالتفات العبد في نجاته إلى بعض الأشياء من الرياح والأمطار أو الإنسان أو الحيوان يضاهي التفات من أخذ لتنجز رقبته، فأمر الملك كاتبه بأن يكتب توقيعا بالعفو عنه وتخليته، فأخذ العبد يشتغل بمدح الحبر أو الكاغد أو القلم أو الكاتب، ويقول: لولا الحبر أو القلم أو الكاغد أو الكاتب ما تخلصت، فيرى نجاته من الحبر والكاغد دون القلم أو من القلم دون محركه - أعني الكاتب - أو من الكاتب دون الملك الذي هو محرك الكاتب ومسخره. ومن علم أن القلم لا حكم له في نفسه وإنما هو مسخر في يد الكاتب وإن الكاتب لا حكم له وإنما هو مسخر تحت يد الملك،