قلت: هذا الحديث روي عن عمار بن ياسر بهذا الوجه، كما ذكره ابن الجوزي في بعض مؤلفاته، واعترض بعض من ألف في تفضيل اللبن على العسل أن هذا غير وارد، فإن المذق هو خلط الشيء، فوصف العسل بأنه مخلوط في بطونها، فلا ينافى الأول، انتهى.
قلت: وهذا جهل باللغة العربية، فإن المراد بالمذقة هنا، ما تمذقه بفيها، أي تمجه، والمذق كالمج لا يكون إلا بالفم، فتأمل.
أو طل خفي، يحدثه الله في الهواء، يقع على الزهر وغيره، كأوراق الشجر، فيلقطه النحل بإلهام من الله تعالى بأفواهها، فإذا شبعت التقطت مرة أخرى من تلك الأجزاء، وذهبت به إلى بيوتها، ووضعته هناك، فهو العسل.
وقيل في هذا الطل اللطيف الخفي: هو بخار يصعد، فينضج في الجو، فيستحيل، فيغلط في الليل من برد الهواء، فيقع عسلا.
قال الإمام الرازي في تفسيره: وهذا أقرب إلى العقل، وأشد مناسبة للاستقراء، فإن طبيعة الترنجبين قريبة من العسل، ولا شك أنه طل يحدث في الهواء، ويقع على أطراف الأشجار والأزهار، وأيضا نحن نشاهد أن النحل يغتذي بالعسل، وإذا استخرج من بيوتها ترك لها منه ما تأكله، انتهى.
قلت: ظاهر كلام الرازي أنه طل تحمله بأفواهها، وتضعه في بيوتها، فينعقد عسلا، وظاهر القرآن يخالفه، فإنه نص على أنه يخرج من بطونها، والظاهر أنه بعد استقراره في بطونها تقذفه عسلا، بقدرة السميع العليم، كما يخرج اللبن من بين فرث ودم، إنه على كل شيء قدير، فتأمل. وقد يقع العسل ظاهرا فيلقطه الناس، وذكر الكواشي في تفسيره الأوسط، أن العسل ينزل من السماء على هيئة، فيثبت في أماكن، فتأتي النحل فتشربه، ثم تأتي الخلية فتلقيه في الشمع المهيأ للعسل، لا كما توهمه بعض الناس أنه من فضلات الغذاء، وأنه قد استحال في المعدة عسلا. هذه عبارته.
قلت: وهو قريب مما ساقه الرازي، وكل ذلك فيه دلالة على أنه مخرجه من أفواه النحل، وهو مذهب الجمهور، وقد أشكل ذلك على المتقدمين، حتى إن أرسطاطاليس لما تحير في تحقيق هذا الأمر صنع لها خلايا من زجاج، لينظر إلى كيفية ذلك، فأبت أن تعسل فيه، حتى لطخته من باطن الزجاج بالطين، فلم يتحقق، حكاه الغزنوي. والحق أنه لا يعلم بحقيقة حروجه إلا خالقه سبحانه وتعالى، لكن لا يتم إصلاحه إلا بحمي أنفاسها.
وقال شيخنا: كلام المصنف في العسل غير سديد، وخلافاته غير منقولة عن الواضع، ولا مسموعة عن العرب الذين هم قدوة كل متكلم مجيد، وخصوصا دعوى أنه بخار.... إلخ. أما ما مال المصنف به لرأي الحكماء، وأهل التصعيد، فهو قول باطل، لا يعرف لإمام كامل، فيجب الحذر من إيراده في المصنفات الموضوعة في كلام العرب إفرادا وتركيبا، انتهى.
قلت: وذهل شيخنا أن كتابه هذا البحر المحيط، وأن من شأنه جلب الأقوال من كل مديد ووسيط، وقد عرفناك أن الأقوال المذكورة للرازي والغزنوي والكواشي صاحب الوسيط، وكفى بهؤلاء قدوة ومتبعا لكل مدع محيط.
وأفردت لمنافعه وأسمائه كتابا، قال شيخنا: تصنيفه هذا مختصر في نحو ورقتين، فيه فائدة ما، قلت: إن كان المراد به: ترقيق الأسل لتصفيق العسل، فهو نحو كراسين وأزيد، وقد رأيته، وطالعته، واستفدت منه، فكيف يقول شيخنا: في نحو ورقتين، فتأمل ذلك، ومنافعه كثيرة جدا، أفردها الأطباء في تصانيفهم، ليس هذا محل ذكرها، وهو غذاء مع الأغذية، ودواء مع الأدوية، وشراب مع الأشربة، وحلو مع الحلاوة (1)، وطلاء مع الأطلية، ومفرح مع المفرحات، وفي سنن ابن ماجة، من حديث ابن مسعود، رفعه: العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور، فعليكم بالشفاءين، القرآن، والعسل.
يذكر ويؤنث، والتذكير لغة معروفة، والتأنيث أكثر، كما في المصباح، وبه جزم القزاز في الجامع، قال الشماخ: