وحضرت يوما في النجف مجلسا اقامه الشيخ ميرزا حسين النوري في داره لذكرى مقتل أمير المؤمنين علي ع وهو محدث متتبع وحيد عصره في ذلك فقرأ المقتل بنفسه ونبه على هذا الكلام المنسوب إلى حبيب بن عمرو انه لا أصل له، وسمعت مرة وانا في سن الطفولة من يقرأ المقتل يوم العاشر وفيه حديث عن درة الصدف وانها حضرت يوم العاشر إلى كربلاء لتنصر الحسين ع في قصة طويلة لم تبق في ذاكرتي وكنت استنكر ذلك واكذبه في نفسي ومما غيره الشيخ موسى شرارة ان جعل قراءة المقتل في مقتل ابن طاووس. ولما ألفنا لواعج الأشجان صارت قراءة المقتل فيه وصارت قراءة الذاكرين في المجالس السنية فخلصت الأحاديث وصفت من تلك العيوب والأكاذيب وكان الشيخ موسى يميل إلى أهل العراق كثيرا ويتأنق في العبارات فإذا ذكر بعض عادتهم قال هذا سبك العراق، وافتخر عليه بعض أهل البيوتات يوما فقال له الشيخ موسى ما أكثر الدعوى وأقل المعنى. وشرعنا في بنت جبيل في القراءة على السيد نجيب فضل الله الحسني العيناثي فأتممنا عنده قراءة المطول وحاشية ملا عبد الله في المنطق وقرأنا عليه شرح الشمسية في المنطق أيضا بكل دقة واتقان ونراجع مع ذلك شرح المطالع في المنطق ثم ابتدأنا في قراءة المعالم في الأصول مع مراجعة حاشيتي سلطان والشيرواني عليها وغيرهما بكل اتقان وكان الفضل في ذلك لمزيد الجد والاجتهاد.
وحاولنا ان نقرأ في الفقه في الشرائع فقرأنا درسا أو درسين عند بعض الناس فلم نجد فيه كفاءة فتركناه ولم نجد سواه، وكتبت على المطول حاشية عند قراءتي إياه وحاشية على المعالم وكتابا في النحو، وكان السيد نجيب ربما ذهب يوم الخميس إلى عيناثا ولم يعرج علينا فكنا نذهب إلى عيناثا كي لا يفوتنا الدرس في مدة وجودي في بنت جبيل سافر والدي إلى العراق بقصد زيارة قبور الأئمة ع في العراق وزيارة الرضا ع في خراسان ولما وصل إلى العراق أشار عليه ابن عمه العلامة الحافظ السيد كاظم ابن السيد احمد بدفع ما يريد صرفه في زيارة الرضا ع إلى أولاد أخيه المشغولين بطلب العلم في النجف وقال له ان صرف ذلك عليهم مع اشتغالهم بطلب العلم أفضل من صرفه في سبيل الزيارة ففعل وعاد من العراق ولم يذهب إلى خراسان. وطلب وهو في العراق ارسال عشر ليرات عثمانية ذهبا فذهبت مع عمي السيد امين يوم الخميس إلى سوق بنت جبيل واخذنا من الدراهم ما قيمته عشر ليرات عثمانية واستبدلناه بها واتفق ان غببنا بعض من وثقنا به فقال عمي: الثقة بكل أحد عجز، ولم أكن سمعت هذا الحديث فحفظته وأعجبت بما فيه من حكمة ولأجله ذكرت هذه الحكاية ولكنني مع ذلك قد أثق بمن لا يوثق به. ولما كان والدي في العراق أوصاه أبناء عمي بارسالي إلى النجف فلما عاد إلى الوطن زاره الشيخ موسى شرارة في جملة من زاره فأخبره والدي بوصية أبناء أخيه له بارسالي للنجف فلم يشر عليه بذلك وقال إن له أبناء عمه ليسوا بأفضل منه.
ومن السوانح المستطرفة التي جرت معنا أيام وجودنا في بنت جبيل انه جاءني يوما الشيخ طالب سليمان البياضي وقال أنذر لي إذا بلغك الله رتبة الاجتهاد ان تكسوني عباءة فنذرت له ذلك فقال اكتب لي به صكا فكتبت له ومضت الأيام والليالي وانست ذلك ولما عدت من العراق جاءني فأراني الصك فسلمته العباءة.
ومنها انه لما كنا نسكن في بنت جبيل في وسط البلدة كان يسهل علينا الاستقاء من الأبار القريبة منا فلما سكنا في دار حسن أيوب في آخر البلدة من الشمال احتجنا إلى من يستقي لنا الماء من عيناثا لأن بها عينا ماؤها غزير، إما عيون بنت جبيل فينضب ماؤها في الصيف حتى يقل جدا ولا يكفي لحاجة أهلها فقيل لنا ان رجلا اسمه موسى قليط حلاق يسكن قريبا منا عنده بنت يمكن ان تستقي لكم من عيناثا بمشاهرة فطلبنا من السيد نجيب ان يتوسط لنا في هذا الأمر عند والد البنت باعتبار انه من عيناثا القريبة من بنت جبيل ولأهلها معرفة به وهو سيد شريف فاضل من عائلة علمية فوساطته قريبة من النجاح فذهبنا نمشي معه حتى ورد منزل المذكور وهو شيخ قد وخطه الشيب فوجدناه متكئا على الأرض امام حجرته الضيقة التي بابها على الطريق وليس لها دار وتسمى في عرف تلك البلاد خشة فسلمنا عليه ولا بد ان يكون رد علينا السلام إما انه جلس بعد ما كان متكئا أو قام قائما فلا أتذكره غالب ظني انه لم يفعل فوقف السيد ونحن وقوف إلى جانبه وبدأ يخاطبه بلسانه الذلق وعبارته البليغة الفصيحة وافتتح الكلام بالثناء على الرجل فقال يا شيخ موسى أنت والحمد لله من أهل الشهامة والغيرة والمروءة ومن محبي الخير لا سيما معونة طلاب العلم واخذ يثني عليه بمثل هذه العبارات حتى لم يبق في القوس منزع والسيد أديب شاعر إذا اخذ في الخطابة أجاد، والمطلب وإن كان تافها وهو طلب بنت موسى قليط الحلاق لتحضر كل يوم جرة من الماء بأجرتها، الا ان ذلك لما كان يتعلق بطلاب العلم لا سيما انهم تلاميذ السيد لزم عليه ان يهتم به غاية الاهتمام ولما فرع السيد من الثناء على الرجل قال له ونحن نريد منك البنت ان تستقي كل يوم جرة من الماء بأجرتها لهؤلاء الجماعة طلبة العلم الذين من أعانهم ولو بمدة قلم كان له على الله الجنة وأطال السيد في الترغيب حتى لم يدع شاردة ولا واردة، فلما فرع من خطابه اجابه الرجل بجواب مختصر فقال انظر ما انا بطبل حتى تنفخني ليس عندي بنات لجلب الماء، فلم يستحسن السيد ان يقطع الكلام معه لعله يجيب إلى ما سئل منه فعاوده الكلام مرغبا، فقال قد أخبرتك انه ليس عندي بنات فلا لزوم لإطالة الكلام فعدنا نسحب أذيال الخيبة. رحمك الله يا موسى قليط لست انسى وقوفنا بين يديك ولا كوقوف الأسرى بين يدي كسرى ابرويز ونحن نستعطفك وأنت تقسو علينا سامحك الله وعفا عنك، ولما يئسنا من وجود من يستقي لنا الماء ذهب الشيخ محمد دبوق يوم الخميس واشترى جرة متوسطة وقال انا اذهب واملؤها من العين في عيناثا، فقلت ذلك إليك وكانت له عباءة مؤلفة من عباءتين إحداهما تسمى بوزية لا تفترق عن البساط شيئا والأخرى سوداء تسمى صدية قد اخنى عليها الذي اخنى على لبد وقد خاط إحداهما فوق الأخرى فصارتا عباءة واحدة فكان يفترشها على الأرض ويجلس عليها عند المباحثة وهي لحافه إذا نام ويلبسها إذا خرج وإذا جلس امام الشيخ في الدرس وهي للجمعة والجماعة، وعنده مخدة زرقاء ينام عليها وفيها يقول شعرا:
ورب مخدة زرقاء اضحى * لها حشو يفوق الشوك لينا جعلت رباطها البابير كيما تزيد ملاحة وتقل شينا وهذا منتهى الزهد والاستهانة بالدنيا يفعل ذلك بدون كلفة وبكل سهولة وطيب نفس امام جميع الخلق، فوضع العباءة على كتفه والجرة فوقها وامسكها بإحدى عروتيها وتوجه على اسم الله إلى عيناثا والمسافة نحو ربع ساعة فوجد على العين ثلة من النساء مجتمعات للاستقاء، والنساء رقيقات القلوب بالطبع لا سيما انهن رأين طالب علم ذا لحية سوداء وعمامة بيضاء