أكافيك عن بعض الذي قد فعلته * لأن لمولانا علي حقوقا بعثت خدودا مع نهود وأعينا * ولا غرو ان يجزي الصديق صديقا وان حال منك البعض عما عهدته * فما حال يوم عن ولاك وثوقا بنفسج تلك العين صار شقائقا * ولؤلؤ ذاك الدمع عاد عقيقا وكم عاشق يشكو انقطاعك عندما * قطعت على اللذات منه طريقا فلا عدمتك العاشقون فطالما * أقمت لأوقات المسرة سوقا وله:
حسن التأني مما يعين على * رزق الفتى والحظوظ تختلف والعبد مذ صار في جزارته * يعرف من أين تؤكل الكتف وكان له حمار فمات فكتب إليه بعض أصحابه:
مات حمار الأديب قلت لهم * مضى وقد فات فيه ما فاتا من مات في عزه استراح ومن * خلف مثل الأديب ما ماتا فاجابه الجزار:
كم من جهول رآني * أمشي لأطلب رزقا فقال لي صرت تمشي * وكنت تغشى وتلقى فقلت مات حماري * تعيش أنت وتبقى وللجزار مشيرا إلى حديث الإفك نقله شارح رسالة ابن زيدون من خطه:
لا تقطعن عادة بر ولا * تجعل عقاب المرء في رزقه واصفح عن الجاني فان الذي * ترجوه عفو الله من خلقه وان بدت من صاحب زلة * فاستره بالاغضاء واستبقه فان اثم الإفك من مسطح * يحط قدر النجم عن أفقه وقد جرى منه الذي قد جرى * وعوتب الصديق في حقه وله:
وحقك ما لي من قدرة * على كشف ضري إذ مسني فكم أخذتني عيون الظباء * بعد الإنابة من مأمني وله:
أطيل شكاياتي إلى غير راحم * وأهل الغنى لا يرحمون فقيرا وأشكر عيشي للورى خوف شامت * كذا كل نحس لا يزال شكورا وله:
الا قل لمن يسال عن * قومي وعن أهلي لقد تسأل عن قوم * كرام الفرع والأصل يريقون دم الأنعام * في حزن وفي سهل على ما فيهم يعرف * من جود ومن نبل ترحبهم بنو كلب * وتخشاهم بنو عجل وله:
يمضي الزمان وأنت هاجر * أفما لهذا الهجر آخر يا من تحكم في القلوب * بحاجب منه وناظر مولاي لا تنس المحب * فإنه لهواك ذاكر وإذا رقدت منعما * فاذكر شقيا فيك ساهر شتان ما بيني وبينك في * الهوى إن كنت عاذر النار في كبدي وظلمك * بارد والجفن فاتر وفي شرح رسالة ابن زيدون: قال أبو الحسين الجزار من أبيات وقد ذكر حريق الحرم النبوي:
لله في النار التي وقعت به * سر عن العقلاء لا يخفيه أن ليس يبقى في فناه بقية * مما بنته بنو أمية فيه وقال الأستاذ محمد رجب البيومي من مقال له:
نشأ الجزار في أواخر العصر الأيوبي، والملوك يومئذ يقربون الشعراء، ويهتمون بالأدباء، فانتجع الشاعر ساحتهم، وأرسل امداحه في الرؤساء والوجهاء من علية القوم، ثم عاد بالهبات الوافرة والعطاء الكثير، وقد ذاع صيته في مصر فروى العامة شعره، وقرب الخاصة مجلسه منهم، فمازحهم وفاكههم وآكلهم وشاربهم، وكانت الكنافة أحب الطعام إليه، يتلهف عليها إذا احتجبت عنه، ويستائل عنها لدى ندمائه وخلانه، فإذا لم يوفق إلى طلبته فرع إلى شعره يبثه شجونه:
وما لي أرى وجه الكنافة مغضبا * ولولا رضاها لم أرد رمضانها عجبت لها في هجرها كيف أظهرت * علي جفاء صد عني جفانها ترى اتهمتني بالقطائف فاغتدت * تصد اعتقادا أن قلبي خانها ومذ قاطعتني ما سمعت كلامها * لأن لساني لم يخالط لسانها بهذه الخفة المرحة طارت أبيات الشاعر كل مطار، فتناقلها السمار في أنديتهم، وتدارسها الأدباء في مجالسهم، وأصبح الشاعر علما في قومه، وأثيرا بين زملائه وعارفيه وقد سر به والده سرورا كبيرا فلم يكن يطمع هذا الجزار المتواضع أن يكون ذا ولد يملأ العين والسمع، ويشغل المحافل والأندية، ويسطر الصحائف والكتب، والغريب أن هذا الوالد الأمي هو الذي شجع نجله على قرض الشعر، وهيا له الفرصة لمجالسة الأدباء والعلماء، ومنحه الإجازات الطويلة من عمله بالجزارة ليفرع إلى موهبته، عكس ما كنا ننتظره من قصاب عامي مثله!! وقد يكون من الطريف أن نذكر أن الوالد قد اصطحب ولده في نشأته الأولى إلى شاعر مشهور يعرف بابى الإصبع ليسمعه أبياته فلما وعاها الشاعر الكبير تبسم وقال للأديب الناشئ: أنت عوام ماهر فسر الوالد سرورا كبيرا وقدم إليه هدية ثمينة من لحومه، وحين سئل أبو الإصبع عن مراده بقوله: أنت عوام ماهر قال: أنه ينتقل في الشعر من بحر إلى بحر!! فانظر إلى دقة النقد وخفاء المأخذ، لتعرف ما طبع عليه الأدباء المصريون لعهد مضى من حسن التاتي، ولطافة المدخل ولو واجه أبو الإصبع شاعرنا الناشئ بنقده الصريع لأخمد من عزيمته واوهى من ثقته!! ولكن أحسن الرد فكوفئ مكافاة طيبة من ناحية، واسدى لأبي الحسين من ناحية ثانية يدا تذكر له في مجال الاستحسان.
على أن العهد الأيوبي لم يطل، وجاءت دولة المماليك، ورؤساؤها أعاجم أميون، يهيمون بالفروسية والبسالة، ويفتنون في المؤامرات السياسية والمكائد الطائفية، إما أن يسلفوا عارفة إلى أصحاب المواهب من الشعراء والعلماء فهذا ما لم يدر لهم في ظن أو حسبان!! ونظر الشاعر في سوقه الرائجة بالأمس فإذا هي خلاء قد كسدت بضاعتها، وخسرت