وقوله في السينية يصف المتحاربين في صورة المعركة بين الفرس والروم:
من مليح يهوي بعامل رمح * ومشيح من السنان بترس فذلك التسجيع بين محرقة ومؤرقة ويروقني ويشوقني ومليح ومشيح قد اعطى الشعر جمال وقع يضيع عند تبديل واحدة من هذه الألفاظ.
ومع التسجيع يعتمد البحتري كثيرا على جودة التقطيع للكلام في النظم. واليك مثلا قوله في البائية التي وصف فيها مصارعة الفتح بن خاقان وزير المتوكل للأسد.
قال: هزبر مشى يبغي هزبرا وأغلب * من القوم يغشى باسل الوجه أغلبا فأحجم لما لم يجد فيك مطمعا * وأقدم لما لم يجد عنك مهربا فلم يغنه أن كر نحوك مقبلا * ولم ينجه إن حاد عنك منكبا حملت عليه السيف لا عزمك انثنى * ولا يدك ارتدت ولا حده نبا ولا أدل على جودة تقطيع الكلام في هذا النظم من أن نعيد كتابته على الشكل الآتي:
هزبر مشى يبغي هزبرا، وأغلب من القوم يغشى باسل الوجه غلبا فأحجم، لما لم يجد فيك مطمعا وأقدم، لما لم يجد عنك مهربا . فلم يغنه.
إن كر نحوك مقبلا، ولم ينجه إن حاد عنك منكبا!
حملت عليه السيف لا عزمك انثنى ولا يدك ارتدت ولا حده نبا.
وإن أدنى حظ من رهافة الحس الموسيقي ليشهد بما قد أسبغته جودة تقطيع النظم على هذا الشعر من عذوبة ايقاع.
وخاتمة القول أن ابن الأثير لم يعد الصواب حين جعل ميزة البحتري العليا أنه أراد أن يشعر فغنى. فلقد ظهر لنا في كل ما تقدم أن أجمل ما بني عليه شعر البحتري هو الجرس الموسيقي وما يشيعه انشاده من طرب في اجزاء النفس. وليس يقلل حكم ابن الأثير من علو منزلة البحتري بين الشعراء العرب. فان ميزة الجرس الموسيقي ليست بالميزة اليسيرة ولا سيما في الشعر الغنائي، بل لعلها هي الميزة العليا في هذا الضرب من الشعر.
ولكن لا بد من الاقرار بان الجرس الموسيقي الذي يتحلى به نظم البحتري قليل النصيب من الفخامة والروعة، فهو جرس عذب رقيق وكفى. أنه قد عدم ذلك العزف الصاخب القوي الذي نجده في شعر زميله أبي الطيب المتنبي.
من شعره قال:
طيف لعلوة ما ينفك يأتيني * يصبو إلي على بعد ويصبيني تصرم الدهر لاجود فيطمعني * فيما لديك ولا ياس فيسليني ولست أعجب من عصيان قلبك لي * عمدا إذا كان قلبي فيك يعصيني إما وما احمر من ورد الخدود ضحى * وأحور في دعج من أعين العين لقد حبوت صفاء الود صائنه * عني وأقرضته من لا يجازيني هوى على الهون اعطيه وأعهدني * من قبل حبك لا أعطي على الهون وقال:
شغلان من عذل ومن تفنيد * ورسيس حب طارف وتليد واما وآرام الظباء لقد نأت * بهواك أرام الظباء الغيد طالعن غورا من تهامة واعتلى * عنهن رملا عالج وزرود لما مشين بذي الأراك تشابهت * اعطاف قضبان به وقدود في حلتي حبر وروض فالتقى * وشيان وشي ربى ووشي برود وسفرن فامتلأت عيون راقها * وردان ورد جنى وورد خدود وضحكن فاغترف الأقاحي من ندى غض وسلسال الرضاب برود نرجو مقابلة الحبيب ودونه * وخد يبرح بالمهارى القود ومتى يساعدنا الوصال ودهرنا * يومان يوم نوى ويوم صدود وقال:
هل دين علوة يستطاع فيقتضى * أو ظلم علوة يستفيق فيقصر بيضاء يعطيك القضيب قوامها * ويريك عينيها الغزال الأحور تمشي فتحكم في القلوب بدلها * وتميس في ظل الشباب وتخطر وتميل من لين الصبا فيقيمها * قد يؤنث تارة ويذكر اني وإن جانبت بعض بطالتي * وتوهم الواشون اني مقصر ليشوقني سحر العيون المجتلى * ويروقني ورد الخدود الأحمر وقال:
تناءت دار علوة بعد قرب * فهل ركب يبلغها السلاما وجدد طيفها عتبا علينا * فما يعتادنا الا لماما وربت ليلة قد بت اسقى * بعينيها وكفيها المداما وقد علمت باني لم أضيع * لها عهدا ولم أخفر ذماما لئن أضحت محلتنا عراقا * مشرقة وحلتها شاما فلم أحدث لها الا ودادا * ولم أزدد بها الا غراما وقال:
هذي المعاهد من سعاد فسلم * واسال وإن وجمت ولم تتكلم لؤم بنار الشوق إن لم تحتدم * وضنانة بالدمع إن لم يسجم وبمسقط العلمين ناعمة الصبا * حيرى الشباب تبين إن لم تصرم بيضاء تكتمها الفجاج وخلفها * نفس يصعده هوى لم يكتم هل ركب مكة حاملون تحية * تهدي إليها من معنى مغرم رد الجفون على كرى متبدد * وحنى الضلوع على جوى متضرم إن لا يبلغك الحجيج فلا رموا * في الجمرتين ولا سقوا من زمزم وقال: