الحرمان حتى قال فيه ابن رشيق: فاض كسبه من شعره، وكان يركب في موكب من عبيد. وهذا الضيق في مطامحه، وما صادف من التوفيق في حياته الخاصة، ما كانا ليثيراه إلى غوص وإلى عمق تحليل. ثم لا شك في أن الجو الذي أحدثه المتوكل باضطهاد المعتزلة، والدعوة إلى ترك المناقشة والتفلسف، قد كان له أثره فيما نلمسه من سطحية البحتري في أكثر معانيه. ودليلنا على ذلك أنه شاء في آخر حياته أن يتفلسف فقال في رثائه لأحد أصدقائه:
ولم أر كالدنيا حليلة وامق * محب متى تحسن بعينيه تطلق تراها عيانا وهي صنعة واحد * فتحسبها صنعي حكيم واخرق شبه الدنيا بزوجة رجل تطلق حين يشتد كلفه بها وشغفه، أراد أن الإنسان كلما تعلق بالدنيا أفلتت من يديه ودفعت به نحو القبر. ثم زعم أن الدنيا وإن ظهرت من صنع خالق واحد فان فيها من التفاوت والاختلاف ما يحمل على الاعتقاد بأنها من صنع خالقين اثنين أحدهما حكيم والآخر أحمق. فما كان من خصوم البحتري إلا أن اتهموه بالقول بالهين: إله خير وإله شر، على مذهب الزرادشتية الفارسية، ولاقت هذه التهمة رواجا في العامة حتى اضطر الشاعر إلى الخروج من بغداد هاربا أو كالهارب إلى بلده منبج حيث قضى نحبه.
وإذا لم يكن للبحتري استعداد يخوله إن يكون شاعر فكرة، ولا كان المناخ العقلي في عصره وبيئته ليصرف رجلا مثله إلى سبر الأغوار والتفتيش عن المعاني، فيتعرض لغضب السلطان أو سخط العوام.
فاما الصورة فقد كان نصيب أبي عبادة منها قيما نفيسا. فهو معدود في الشعراء الواصفين وله أجادات مرموقة في وصف الآثار العمرانية والمشاهد الطبيعية، من مثل السينية التي وقف بها على إطلال إيوان كسرى في المدائن، واللامية في القصر الكامل الذي بناه الخليفة المعتز. واليائية الهائية في بركة المتوكل. والميمية في الربيع. ومع هذا يجب الاعتراف بان أوصافه جلها حسي يتعلق بظاهر الموصوفات، وجلها إجمال قليل الحظ من الدقة في تصوير الملامح وتحريها.
غير إننا حين نلتفت شطر العاطفة عند البحتري توشك أن ترتد إلى مثل ضؤولة نصيبه من الفكرة إلا في بعض قصائد كالتي رثى بها المتوكل غب مصرعه بأيدي الجند الأتراك، فان فيها من صدق اللوعة والجسارة على قتلة المتوكل وعلى ولي عهده ما يجعلها رائعة من روائع الرثاء، وحجة للبحتري رغم تذبذبه على أنه كان قمينا بجمال الوفاء.
وهكذا ترانا إذا استثنينا حظ البحتري من إجادة الصورة، وعرفنا له بعض لمحات دالة على قوة العاطفة، نجد أن حكم ابن الأثير كان صحيحا حين جعل أجمل ما في شعر أبي عبادة عنصر الجرس الموسيقي. فهو العنصر الذي يمتاز به البحتري حقا، وأكبر الظن أن البحتري كان مدركا لشعره ميزته العليا هذه، فكان يباهي الناس مباهاة في إنشاده لعلمه أن الإنشاد يسبغ على شعره عذوبة وطلاوة، ويجد له رونقا يضيع إذا قرئ قصيدة قراءة صامتة.
ولنضرب لنا مثلا. قال البحتري يتغزل بعلوة القينة الحلبية التي عرفها في صباه ثم اتخذها عروسا لشعره يذكرها في مطالع الغزل التقليدي التي يمهد بها للمدح:
عذيري فيك من لاح إذا ما * شكوت الحب حرقني ملاما فلا وأبيك ما ضيعت عهدا * ولا قارفت في حبيك ذاما ألام على هواك وليس عدلا * إذا أحببت مثلك أن الاما لقد حرمت من وصلي حلالا * وقد حللت من هجري حراما أعيدي في نظرة مستثيب * توخى الاجر أو كره الاثاما ترى كبدا محرقة وعينا * مؤرقة وقلبا مستهاما فليس يستطيع متذوق للشعر ينشد هذه الأبيات إلا أن يجد لها وقعا حلوا في نفسه. فإذا فتش عن مبعث هذه الحلاوة لم يمكنه أن يجده في معنى نادر ولا وصف ساحر ولا شعور باهر. فالفكرة في الأبيات والصورة والعاطفة كلها متاع مشترك بين قوالي الغزل.
فمن أين إذن، كان ذلك الوقع الحلو الذي نحسه في أنفسنا حين نردد هذه الأبيات. أنه ناشئ ولا ريب من رشاقتها وحسن رنتها، أي:
الجرس الموسيقي العذب الذي احتواه نظم هذه الأبيات وجلاه لنا انشادها.
وللبحتري صفة خاصة دقيقة، يعالج بها الجرس الموسيقي ويلينه ويطوعه لشعره. فهو بالدرجة الأولى شديد الحرس على اللفظ المأنوس الأنيق وعلى التركيب الشفاف المشرق وعلى صور التعبير القريبة المتناول، مما أدخلناه في حسن سبكه للفظ على المعنى وظاهر أن أنس اللفظ وأناقته ووضوح التركيب وإشراقه، وقرب متناول الصور التعبيرية، كل ذلك خادم لحسن الجرس الموسيقي إذ لا يفسد هذا الجرس شئ كالتعقيد والتقعير، فتشتغل النفس عندئذ بطلب المعنى عن التلذذ برخامة النغم والإيقاع.
غير أن أبا عبادة لا يقتصر على هذا القدر من الصنعة في تطويع الجرس الموسيقي لنظمه بل تراه بارعا مرهف الحس في اجتناب كل نشاز بين حرف وآخر في اللفظة الواحدة، أو بين لفظة وأخرى في التركيب، فهو لا يراعي نسب الألفاظ فيما بينها فقط ولا النسب فيما بين الألفاظ والمعنى فقط، بل يراعي النسب أيضا بين مخارج الحروف وأصواتها ومقاطع الكلمات وأصدائها:
إلا م على هواك وليس عدلا * إذا أحببت مثلك ان الاما فهل ترى في هذا النظم حرفا يجاوز حرفا آخرا يتجافى صوتهما، أو هل ترى كلمة تلاصق كلمة أخرى يتنافى صداهما.
وإلى ذلك يستعمل البحتري فنا من التسجيع في داخل البيت يكسب نظمه موسيقى مطربة كما في قوله:
ترى كبدا محرقة وعينا * مؤرقة وقلبا مستهاما وقوله:
اني وإن جانبت بعض بطالتي * وتوهم الواشون اني مقصر ليشوقني سحر العيون المجتلى * ويشوقني ورد الخدود الأحمر